من معالم شخصية إبراهيم عليه السلام١ ( مضمنة تعميم الوزارة)
د. سلطان بن حباب الجعيد
الحمدُ للهِ، وكفى بالله وكيلاً، ووليًّا ونصيرًا، اتَّخذَ إبراهيمَ -عليهِ السَّلامُ- خليلًا، وأمرَنا باتِّباعِهِ وأن نجعلَ من سنَّتِهِ طريقًا.
والصَّلاةُ والسَّلامُ، على من بعثَهُ اللهُ بالحنيفيَّةِ السَّمحَةِ، دينِ أبيهِ إبراهيمَ، فبعثَها من جديدٍ، وذبَّ عنها بالحديدِ، حتَّى استبانتْ لِمَن أرادَ الانصياعَ للعزيزِ الحميدِ، وحادَ عنها من سفِهَ نفسَهُ، وأرادَ التَّرَدِّي في النَّارِ ذاتِ الحرِّ الشَّديدِ.
فاللَّهُمَّ صلِّ وسلِّمْ وبارك عليهما وآلهما، إنَّكَ حميدٌ مجيدٌ.
عبادَ اللهِ، اتَّقوا اللهَ، فإنَّها السَّبيلُ إلى التَّخلُّصِ من شُحِّ النُّفوسِ، قال تعالى: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [التغابن: ١٦].
أمَّا بعدُ:
أيُّها المسلمون، لا يُذكَرُ الحجُّ إلَّا ويُذكَرُ نبيُّ اللهِ وخليلُهُ إبراهيمُ عليهِ السَّلامُ.
فهو الَّذي بنى البيتَ الَّذي يَحُجُّ النَّاسُ إليهِ: ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ [البقرة: ١٢٧].
وهو الَّذي أذَّنَ في النَّاسِ بالحجِّ: ﴿وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ﴾ [الحج: ٢٧].
وهو الَّذي يَسْتَنُّ النَّاسُ بسُنَّتِهِ في أداءِ مناسكِهِم؛ من طوافٍ، وسعيٍ، ونحرٍ، ورميٍ للجِمارِ.
فحَريٌّ بنا في أيَّامِ الحجِّ هذه، أن نتوقَّفَ مع هذه الشَّخصيَّةِ العظيمةِ، أبي الأنبياءِ، وإمامِ الموحِّدين، وخليلِ ربِّ العالمينَ.
فقد أثنى عليهِ ربُّهُ، وأثنى على صفاتِهِ، بما يُبيِّنُ عظيمَ المكانةِ الَّتي يحتلُّها عندَ ربِّهِ، والمنزلةَ الَّتي يتبوَّأها في الرَّفيقِ الأعلى.
فهو الَّذي هداهُ ربُّهُ واجتباهُ، وجعل له لسانَ صِدقٍ في الآخرينَ، وآتاهُ: ﴿فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾ [النحل: ١٢٢].
وهو الَّذي وفَّى بكلِّ ما أمرَهُ بهِ ربُّهُ، وهو الحليمُ الأوَّاهُ المُنيبُ الكريمُ.
كلُّ ذلكَ وغيرُهُ جعلَهُ في المنزلةِ الأعظمِ الَّتي أخبرَ اللهُ عنها بقولِهِ: ﴿وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا﴾ [النساء: ١٢٥].
نتوقَّفُ معها في قراءتِنا للقرآنِ في هذه الأيَّامِ، وفي أحاديثِ مجالسِنا واجتماعاتِنا، مع أسرِنا وأقاربِنا وأصدقائِنا.
وأيضًا في خطبِنا ومواعظِنا؛ لنَتَرَسَّمَ الطَّريقَ، ونستلهمَ الهُدى، ونتتبَّعَ أثرَهُ وخُطاهُ وسنَّتَهُ.
فهو من أُمر نبيُّنا محمَّدٌ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ باتِّباعِهِ، ونحنُ بذلك أيضًا مأمورون من بعدِهِ، قال تعالى:
﴿ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [النحل: ١٢٣].
وقال:
﴿وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا﴾ [النساء: ١٢٥].
وهذا التَّأسي والاتِّباع لا يكونُ إلَّا بالتَّعرُّفِ على صفاتِهِ وأخلاقِهِ وأعمالِهِ.
لنا اليومَ وقفةٌ مع مَعْلمٍ من معالمِ هذه الشَّخصيَّةِ العظيمةِ الكريمةِ، وهي انقيادُ إبراهيمَ لأوامرِ ربِّهِ وسرعةُ استجابتِهِ لهُ: ﴿إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [البقرة: ١٣١].
أُمر أن يضعَ زوجهُ هاجرَ وابنَهُ إسماعيلَ في وادٍ غيرِ ذي زرعٍ، فامتثل:
﴿رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ﴾ [إبراهيم: ٣٧].
وعن ابنِ عبَّاسٍ رضيَ اللهُ عنهُما قال: جاءَ إبراهيمُ ﷺ بأمِّ إسماعيلَ وبابنِها إسماعيلَ، وهي تُرضِعُهُ، حتَّى وضعَها عندَ البيتِ، عندَ دَوْحَةٍ فوقَ زمزمَ، في أعلى المسجدِ، وليسَ بمكَّةَ يومئذٍ أحدٌ، وليسَ بها ماءٌ، فوضعَهُما هناكَ، ووضعَ عندَهُما جِرابًا فيهِ تمرٌ، وسِقاءً فيهِ ماءٌ.
ثمَّ قفَّى إبراهيمُ مُنطلِقًا، فتبعَتهُ أمُّ إسماعيلَ، فقالت: يا إبراهيمُ، أينَ تذهبُ وتتركُنا بهذا الوادي الَّذي ليسَ فيهِ أنيسٌ ولا شيءٌ؟!
فقالت له ذلك مرارًا، وجعل لا يلتفتُ إليها، فقالت له: آللهُ أمرك بهذا؟ قال: نعم. قالت: إذًا لا يُضيِّعُنا. ثمَّ رجعت… (متفقٌ عليه).
أُمر بذبحِ ابنِهِ فامتثل: ﴿فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ﴾ [الصافات: ١٠٢].
وبهذا ينكشفُ لك أنَّ تسليمَ إبراهيمَ لأمرِ ربِّهِ، لم يكن مقتصرًا عليهِ، بل هو سجيَّةُ بيتِهِ كلِّهِ، زوجِه وولدِه، ربَّاهم ونشَّأهم عليهِ، فما أحوجَنا للاقتداءِ بهِ في ذلكَ في مثلِ هذهِ الأيَّامِ، فحاجةُ الأسرِ لكي تنشأ وتُربَّى من داخلِها على مثلِ هذهِ القيمِ والأخلاقِ واجبٌ متحتِّم.
أيُّها الإخوةُ، إنَّنا إذا سلطْنا هذا المعلَم، وهو التَّسليمُ والإذعانُ لأمرِ اللهِ، على أنفسِنا وواقعِنا، سنلمسُ -ولا بدَّ- خللًا واضحًا في استجابتِنا لأمرِ اللهِ وتعاليمِ دينِهِ.
فهناك علاقةٌ مرتبكةٌ بين قناعاتِنا كمسلمينَ وبين سلوكِنا!
فكلُّنا -مثلًا- يعلمُ عظيمَ أمرِ الصَّلاةِ، والزَّكاةِ، والحجِّ، وبرِّ الوالدينِ، والإحسانِ إلى الخلقِ، وغيرِ ذلك من أبوابِ الخيرِ، ولكن كم هم المُقصِّرون في كلِّ ذلك؟!
وكلُّنا يعلمُ مغبَّةَ الذنوبِ وشؤمَها، ولكن كم هم المرتكبون لها؟!
إنَّه عملٌ وسلوكٌ لا يتناسبُ مع علمِنا!
هذه الأيَّامُ جاءت لتقرِّب الفجوةَ بين سلوكِنا وعلمِنا، بين أوامرِ ربِّنا وواقعِنا.
ألستَ ستمتنعُ عن الأخذِ من شَعركَ وظُفرِكَ إذا أردتَ الأضحية؟!
ألستَ إذا أحرمتَ بالحجِّ لا تجرؤُ على أن تأتيَ أيَّ محظورٍ من محظوراتِ الإحرام؟!
ألستَ حريصًا على أن تُضحِّيَ وتحجَّ وتعتمرَ كما أرادَ اللهُ منك، فتسألَ عن السُّنَّةِ وما أوجبهُ اللهُ عليك حتى تقومَ بفعلِه؟!
ما الذي تغيَّر؟!
لم يتغيَّر شيءٌ، فأنتَ هو أنتَ، وأوامرُ اللهِ ونواهيه هي أيضًا لم تتغيَّر، في موسمِ الحجِّ وفي غيرِه، فلماذا الامتثالُ هنا والمخالفةُ هناك؟!
إنها أيَّامٌ ومناسِكُ تقولُ لك: إنكَ قادرٌ على أن تكونَ ممتثلًا لأمرِ ربِّك، ومنقادًا إليه، كما كان أبواكَ من قبلُ إبراهيمُ وإسماعيلُ عليهما السلام.
وتقولُ لك أيضًا: إن امتثالَ أمرِ اللهِ هيِّنٌ ومقدورٌ عليه، فلماذا المخالفةُ بعد ذلك؟!
﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذينَ يُخالِفونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصيبَهُمْ عَذابٌ أَليمٌ﴾ [النور: ٦٣].
ومن صورِ الامتثالِ والاستجابةِ لأمرِ اللهِ في هذه الأيَّام: أداءُ الحجِّ لمن لم يحُجَّ، والمسارعةُ في ذلك.
يُناديكَ ربُّك كلَّ عامٍ، وقد تجاوزتَ الثلاثين، أو الأربعين، أو الخمسين، وربما الستين من عمرِك ولم تحُجَّ!
متى تستجيبُ لنداءِ ربِّك؟!
وتقول: لبيكَ اللهم لبيك، لبيكَ يا ربِّي، فها أنا عبدُك أتيتُك مستجيبًا طائعًا، تركتُ أهلي وشغلي وملاذَّ الحياةِ وأتيتُك.
فإن فعلتَ، فلا تسلْ عن عظيمِ عطايا اللهِ لك، فالحجُّ المبرورُ ليس له جزاءٌ إلا الجنَّة، وفي الأثرِ: “هؤلاء عبادي جاؤوني شُعثًا غُبرًا، أُشهدكم أني قد غفرتُ لهم”.
فبادِرْ، أخي الحبيب، فالعُمرُ ليس بمضمونٍ..
ولا يَجمُلُ بنا أن ندفعَ عشراتِ الآلافِ من الأموالِ في السياحةِ والسفر، وإذا جاء الحجُّ اعتذرنا بغلاءِ أسعارِ الحملات!
أقولُ قولي هذا…
⸻
الثانية:
وبعد:
أيُّها الإخوةُ الكرام، هنا أمرٌ يجدرُ التنبيهُ عليه، لمن أراد القصدَ إلى البقاعِ المقدَّسةِ، وأداءَ الحجِّ والعمرة، وهو أنَّه لا بُدَّ من الانصياعِ للأوامرِ والتنظيمات، التي تُقصَدُ لأن يتمَّ الحجُّ ومناسكُه على أكملِ وجهٍ.
ومن ذلك استصدارُ التراخيصِ الخاصةِ بذلك، وإلا تسبَّبَ المسلمُ في أن يُعرِّضَ نفسَه وغيرَه للمخاطرِ والمفاسد، التي لا تُحمَدُ عُقباها.
وقد أصدرتْ هيئةُ كبارِ العلماءِ بيانًا وفتوى في هذا الصدد.
فيجبُ السمعُ والطاعةُ في هذا، لِمَنْ ولَّاهُ اللهُ أمرَكم، فنُساهِمُ بمثلِ هذا في نجاحِ موسمِ الحجِّ.
هذا، وصلُّوا وسلِّموا
المرفقات
1747339376_المستند (1).docx