عناصر الخطبة
1/الأمة الإسلامية يصيبها الضعف ولكن لا تموت 2/عبر وعظات من التاريخ 3/مغالطات المعتدين الظالمين 4/بشائر للأمة الإسلاميةاقتباس
إن تلك المظالم سوف يقضي بها اللهُ، فلا يَحسَب المتآمرون أنهم بمأمنٍ من الحساب والعقاب، أفلا يخاف المنبطحون الظالمون أَنْ يُسلِّط اللهُ عليهم يومًا كيوم الظُّلَّة؟! قوم شعيب -عليه السلام- كذبوا بالحق وظلموا، فأرسَل عليهم الصيحةَ، فهل الظالمون بمأمن أن يرسل عليهم عذابًا من عنده؟! إن الله سريع الحساب...
الخطبة الأولى:
الحمد لله؛ (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ)[التَّوْبَةِ: 32].
الحمد لله؛ (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ)[التَّوْبَةِ: 33].
الحمد لله؛ (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[الْبَقَرَةِ: 132].
قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "والله ليتمنَّ هذا الأمر حتى يسير الراكبُ من صنعاءَ إلى حضرموتَ لا يخافُ إلَّا اللهَ والذئبَ على غنمه، ولكنكم تستعجلون"، بسم الله ما شاء الله، لا يسوق الخير إلَّا الله، بسم الله ما شاء الله، لا يصرف السوء عن المقهورين إلا الله، بسم الله ما شاء الله، لا يصرف السوءَ عن المكبَّلينَ والمبعَدينَ إلا اللهُ، بسم الله ما شاء الله، لا يُطعِم الجائعينَ إلا اللهُ، بسم الله ما شاء الله؛ (وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ)[النَّحْلِ: 53]، بسم الله ما شاء، بَيْت الْمَقدسِ في الأرض جنةُ اللهِ، لا حولَ ولا قوةَ إلا باللهِ.
وأشهدُ ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ، وحدَه لا شريكَ له، رفَع السماءَ مزينةً بالنجوم، وثبَّت الأرضَ بجبال في أقاصي التخوم، عَلِمَ الأشياءَ كلَّها، وإن تعدَّد المعلومُ، وقدَّر المحبوبَ والمكروهَ، وجعَل المحمودَ والمذمومَ، يَعلَم بواطنَ الأسرار، وخفايا المكتوم، قضى ما يكون، وقضاؤه محتوم؛ (اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ)[الْبَقَرَةِ: 255].
وأشهد أن سيدنا محمدًا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
محمدٌ كوثرٌ سلسالُ مشربِه *** يسقي به أمةً خُصُّوا بأعذبه
وساعةَ الحشرِ يبدو سرُّ منصبِه *** ونخوته، إذ يفر المرءُ من أَبِهِ
صلى الله عليه الله يا علم الْهُدَى، ما طار طير في الماء وغرَّدَا، صلى عليكَ اللهُ ما رُفع بالأقصى النِّدَا، وما تحركت بالباقياتِ الصالحاتِ الشفاهُ.
سيِّدي يا رسولَ اللهِ: لقد تركتَنا على محجة بيضاء نقية، فَقَوْلُكَ للقلوبِ دواءٌ، وللمقهورينَ بَلْسَمٌ وشفاءٌ، فقد قلتَ صادقًا مُصدَّقًا: "ليبلغنَّ هذا الأمرُ ما بلَغ الليلُ والنهارُ، ولا يترك اللهُ بيتَ مدرٍ ولا وبرٍ، إلَّا أدخلَه اللهُ هذا الدينَ، بعزِّ عزيزٍ، أو بِذُلِّ ذليلٍ، عزًّا يُعِزُّ اللهُ به الإسلامَ، وذُلًّا يُذِلُ اللهُ به الكفرَ".
يا أُمَّةَ الإسلامِ: وإن أصاب الأمة الإسلاميَّة مرض فلن تموت، فأمتنا تمرض ولا تموت، أمة الإسلام هي أمة الخلود إلى قيام الساعة، تضعف، وتمرض، ولا تموت.
إن الذي يرى الظلام وشدته، ويشاهد الظلم ووطأته، ويرى العالم وتآمره، يظن أن الثمار لن تنبت، وأن الشمس لن تشرق، ولكن مما لا شك فيه أن ما نتمناه اليوم حقائق الغد؛ "وليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار".
إن البلاد الإسلاميَّة اجتاحتها حملات تلو الحملات، في الماضي والحاضر، والتي تحمل في طياتها الحقد على هذا الدين وأهله، ومرت على الأمة أيام تجعل الولدان شيبا، وكثر في الأرض الفساد، فهل ماتت الأمة الإسلاميَّة؟! لا والله؛ فقد اختارها الله وجعلها آخر الأمم لتبقى حاملة لرسالة الحق والعدل إلى قيام الساعة؛ (لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا)[الْبَقَرَةِ: 143]، فأمة سيدنا محمد لن تموت.
إن هذا الدين يكون أشد صلبًا وأعظم شموخًا، وأقوى رسوخًا حين تنزل بساحته الشدائد، فيقذف الله في القلوب نفحاته، ويفيق الغافل، ويذهب الضعف، ويجتمع الشتات، ويؤازر المؤمن أخاه المؤمن.
لقد اجتاح المدينةَ المنوَّرةَ جفافٌ جاع فيه الناسُ وهلكوا، من قِلَّة الزاد، وهلكت الماشية، وسُمي بعام الرمادة، فاحتار الخليفة عمر بن الخطاب ماذا يفعل؛ حيث أصاب الناس الجُهْد والبلاء وشدة الجوع، حتى قال الناس: لو لم يرفع الله هذا القحط لظننا أن عمر يموت هما بأمر المسلمين؛ فهو المسؤول عنهم وعن جوعهم، بل لقد فرض على نفسه وعلى أهل بيته تقشفا مراعاة لأحوال المسلمين، فقد أخذ الشاة التي تخص ابنه ووزعها على المسلمين، ومنعه من أكلها حياء.
نعم، إنه الفاروق عمر، كيف يخرج من هذا الجوع الذي ألم بأهل المدينة؟! شكل لجانًا لجمع الطعام، وسد حاجة الجوعى، وما أن اشتد الخناق والجوع على أهل المدينة المنوَّرة إذ به يكتب إلى أمراء الأمصار، وكتب إلى عمرو بن العاص أمير مصر -رضي الله عنه- وقال لأمير مصر: "بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله عمر أمير المؤمنين، سلام عليك، أمَّا بعدُ، أفتراني هالكا ومن حولي وتعيش أنت ومن معك في مصر؟! فيا غوثاه! فيا غوثاه! فيا غوثاه!"، فكتب عمرو بن العاص آنذاك: "لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ، سأغيثُكَ بمددٍ مِنَ القوافلِ أولُها في المدينة المنوَّرة، وآخِرُها في مصر".
نعم، إنها أمة الإسلام، وإن أصابها الوهنُ، والضَّعْف، والجوع، إنها لن تموت؛ "مَثَلُ المؤمنينَ في توادِّهم وتراحُمِهم وتعاطُفِهم كمثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى"، بل وقد فرَض عمرُ بنُ الخطاب على كل بيت من النواحي حول المدينة أن يتكفل بأهل بيت من سكان المدينة، يأكلون مما يأكلون، ويشربون كما يشربون، بل ومراعاة للظروف وإدارتها، جمع أموال الزكاة مُسبَقًا للخروج من الضائقة ليأكل الناس بعيدًا عن الذل والمنة، فعن أي إدارة للأزمة تتحدثون؟! وعن أي إذلال للجائعين تتكلمون؟!
إن تلك المظالم سوف يقضي بها الله، فلا يحسب المتآمرون أنهم بمأمن من الحساب والعقاب، أفلا يخاف المنبطحون الظالمون أن يسلط الله عليهم يومًا كيوم الظلة؟! قوم شعيب -عليه السلام- كذبوا بالحق وظلموا، فأرسل عليهم الصيحة، فهل الظالمون بمأمن أن يرسل عليهم عذابًا من عنده؟! إن الله سريع الحساب.
يسعى الطغاة لتمزيق الشعوب، وزرع التفرقة بين أبناء الأمة؛ ليسهل التجبر والسلب والاضطهاد والقهر، وليسهل الانفراد بطائفة قليلة، والجميع يتفرج؛ (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا في الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ)[الْقَصَصِ: 4]، ثم بعد ذلك يتمادى الطغيان على المتفرجين المنبطحين، ويخيل للظالم أنَّه قادر على إزهاق هذه الأمة، إنها أضغاث أحلام؛ فأمة الإسلام تمرض ولن تموت -بإذن الله-.
إن الذي ولَّاه اللهُ أمورَ المؤمنينَ لا يَقبَل التقصيرَ بها، وعليه تَحَمُّلُ المسؤوليَّةِ، فمهمةُ الراعي هي كما حدَّدَها الراعي العادلُ، عمر بن الخطاب، حين بعَث أبا موسى الأشعريَّ إلى البصرة أميرًا، فوقَف خطيبًا بعدَ أن حَمِدَ اللهَ وقال: "إنَّ أميرَ المؤمنينَ عمرَ بعثني إليكم أُعلِّمُكم كتابَ ربِّكم، وسُنَّةَ نبيِّكم، وأنظف لكم الطرقات"، ولعله يصيبنا الدهش والعجب حين نعلم أن واجبات الحاكم والأمير أن يراعي احتياجات الرعية، وينظف لهم الطرقات، فكيف بنا اليوم والجوعى يجأرون إلى الله، ويقولون كما قال عمر: "واغوثاه، واغوثاه، واغوثاه"؟!
احتلَّ القرامطةُ بيتَ الله الحرام، وتوقَّف الحجُّ والمناسكُ والشعائرُ لعشر سنوات، واهتزت مشاعرُ المسلمينَ في أرجاء المعمورة، كما اهتزت مشاعر المسلمين بحادثة حريق الأقصى، فاسألوا أروقة المسجد الحرام اليوم: أين القرامطة؟! اسألوا ساحات المسجد الحرام اليوم: أين القرامطة الذين منعوا الحج والمناسك؟! إنهم في مزابل التاريخ، وعاد النور لقبلة المسلمين من جديد، وعادت شعائر الإسلام من جديد، أمة الإسلام تمرض ولن تموت.
لقد اجترأ القرامطة ودنَّسوا البيتَ الحرامَ وسرقوا الحجرَ الأسودَ من الكعبة، فاسألوا الحجرَ الأسودَ اليومَ: أينَ المعتدونَ؟! أينَ السارقونَ؟! سيُجيب شاهدًا: لقد محَقَهم اللهُ وأفناهم، وبقي الحجرُ الأسودُ يتلألأُ نورًا كما كان؛ أمتُنا الإسلاميَّةُ وإن أصابها المرضُ والضعفُ والاستهانةُ بمقدَّساتها إلا أنَّها أمة لن تموت؛ (فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّةَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا)[فَاطِرٍ: 43].
إن قلب الحقائق، وتزييف المشاهِد والكذب هو ديدن الظالمين، فلا تَصْغَوْا لكذبهم، إنَّ التشويه الذي يقوم به المعتدون هدفه خلط الحقائق؛ ليستوي الظالم والمظلوم، ولينظر للمعتدي أنَّه مُعتدًى عليه، فموسى -عليه السلام- وكَز رجلًا خطأً فقضى عليه، وفرعون قتل الآلاف عمدًا، وأعدَم الأطفالَ قهرًا وظُلمًا، وعندما خاطَب موسى أمامَ الناسِ قال له: (وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ)[الشُّعَرَاءِ: 19]، متناسيا إجرامه، وناشرا تزييفه، وتبقى أمة الإسلام باقية حية لن تموت؛ فجوهر الأمر أن المستقبل لهذا الدين، وأن المستقبل للإسلام؛ لأنَّه منهج حياة، وارتقاء للبشرية، فلا إله إلا الله، أمر تكرهه الملوك، فالغاية الدفينة للصراع: (حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا)[الْبَقَرَةِ: 217]، أو تتبعوا ملتهم، (وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ)[التَّوْبَةِ: 32]، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إذا قال الرجل: هلك الناس، فهو أهلكهم"، أو كما قال، ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي قدَّم مَنْ شاء لِمَا شاء بفضله، وأخَّر مَنْ شاء لِمَا شاء بعدله، لا يعترض عليه ذو عقل بعقله، ولا يسأله مخلوقٌ عن عِلَّة فِعلِه، وأشهدُ ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ، القاهرُ فوقَ عبادِه، خضَع له المتجبرون، واستكان له المتكبرون، وأشهد أن سيدنا محمدًا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، جعلت أمته خير الأمم، القائل: "أهل الجنة عشرون ومائة صف، ثمانون منها من هذه الأمة، وأربعون من سائر الأمم"، الأمة الإسلاميَّة تملك إيمانًا بتأييد الله لها، وتملك ثقة ويقينًا بأنَّها على الحق، وأن الله مستخلفها في الأرض، إنه وعد من الله يشحذ الهِمَم ويملأ الصدور اطمئنانًا.
إن الدين الإسلامي هو دين البقاء على هذه الأرض بعز عزيز وبذل ذليل، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "بَشِّرْ هَذِهِ الْأُمَّةَ بِالسَّنَاءِ، وَالرِّفْعَةِ"؛ (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ)[التَّوْبَةِ: 33]، (فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ)[غَافِرٍ: 14].
اللهمَّ إنَّا نسألك علمًا نافعًا، ورزقًا واسعًا، وعملًا متقبلا، اللهمَّ ارفع الحصار عن أهلنا المحاصرين، اللهمَّ أطعمهم من جوع، وآمنهم من خوف، اللهمَّ ارحم ضعفهم، وتول أمرهم، واجبر كسرهم، اللهمَّ ارفع عنهم الحرب وأوزارها، اللهمَّ أطلق سراح الأسرى والمعتقَلينَ، اللهمَّ فك قيدهم يا أرحم الراحمين، اللهمَّ اشف مرضانا، وارحم موتانا، وارحم الغرقى والهدمى والمستضعَفين، اللهمَّ اجعل المسجد الأقصى عامرًا بالإسلام والمسلمين، اللهمَّ اجز عَنَّا علماءنا ومشايخنا ووالدينا خير الجزاء.
اللهمَّ يا من جعل الصلاة على النبي من القربات، نتقرب إليك بكل صلاة صليت عليه، من أول النشأة إلى ما لا نهاية للكمالات؛ (سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)[الصَّافَّاتِ: 180-182]، وأَقِمِ الصلاةَ.
التعليقات