أداء الأمانات

الشيخ سعد بن عبدالرحمن بن قاسم

2025-08-08 - 1447/02/14 2025-09-01 - 1447/03/09
عناصر الخطبة
1/الأمر بأداء الأمانات 2/التحذير من خيانة الأمانات 3/عِظَم شأن الأمانة 4/أنواع الأمانات وأقسامها.

اقتباس

إن المؤدي للأمانة مع مخالفة هواه يثيبه الله فيحفظه في أهله وماله بعده، والمطيع لهواه: يعاقبه بنقيض قصده، فيُذلُّ أهله ويُذهبُ ماله، وذكر الحكاية المشهورة عن عمر بن عبد العزيز -رحمه الله-: أنه قيل له: يا أمير المؤمنين أفقرت أفواه بنيك من هذا المال، وتركتهم فقراء لا شيء لهم....

الخطبةُ الأولَى:

 

الحمد لله مُوفّق أوليائه المتقين للقيام بما ائتمنوا عليه، ومُيسِّر ذلك لهم ومعينهم عليه، فما من مسؤولية إلا وبذلوا السبب في أدائها والقيام بها، أحمده -سبحانه- وأشكره، وأستغفره وأتوب إليه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، العالم بالأشياء كلها، ظاهرها وخفيّها، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، الصادق الأمين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً.

 

أما بعد: أيها المسلمون: اتقوا الله -تعالى-، وأدّوا الأمانات الواجبة عليكم، سواء أكانت من حقوق الله أو من حقوق عباده، فقد أمركم الله بذلك، قال -تعالى-: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا)[النساء: ٥٨].

 

 قال ابن كثير -رحمه الله-: "وهو يعم جميع الأمانات الواجبة على الإنسان من حقوق الله -عز وجل- على عباده، من الصلاة والزكاة والصيام، والكفارات والنذور، وغير ذلك مما هو مؤتمن عليه لا يطلع عليه العباد، ومن حقوق العباد بعضهم على بعض، كالودائع وغير ذلك، مما يأتمنون به من غير اطلاع بيّنة على ذلك، فأمَرَ الله -عز وجل- بأدائها، فمن لم يفعل ذلك في الدنيا أخذ منه ذلك يوم القيامة، كما ثبت في الحديث الصحيح أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لتُؤَدَّنَّ الحقوقُ إلى أهلها حتى يُقتَصَّ للشاة الجماءِ من القرناء".اهـ.

 

وكما أمر -تعالى- بأداء الأمانات، فقد نهى عن خيانتها؛ قال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ)[الأنفال: ٢٧]، ولعظم شأن الأمانة وأنها موضع ابتلاء وتمييز؛ فقد قال -تعالى- عنها: (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا * لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا)[الأحزاب: ٧٢ – ٧٣].

 

معشر المسلمين: وكما جاء الأمر بأداء الأمانة في القرآن؛ فقد جاء في السُّنة، فعن سمرة -رضي الله عنه-، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "أدِّ الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك".

 

 ومما يدل على عظم شأن الأمانة، ما جاء في الصحيحين من حديث حذيفة وأبي هريرة -رضي الله عنهما-: "وترسل الأمانة والرحم، فيقومان جنبتي الصراط يميناً وشمالاً".

 

 وذكر ابن تيمية -رحمه الله- لأداء الأمانات نوعين: ففي الولايات قال: "فيجب على ولي الأمر أن يولي على كلِّ عمل من أعمال المسلمين، أصلح مَن يجده لذلك العمل، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "من ولي من أمر المسلمين شيئاً فولَّى رجلاً وهو يجد من هو أصلح للمسلمين منه فقد خان الله ورسوله"، وفي رواية "مَن ولَّى رجلاً على عصابة وهو يجد في تلك العصابة من هو أرضى لله منه فقد خان الله ورسوله وخان المؤمنين"، وقال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- "من ولي من أمر المسلمين شيئاً فولَّى رجلاً لمودة أو قرابة بينهما، فقد خان الله ورسوله والمسلمين".

 

 وقال ابن تيمية -رحمه الله-: "فإن عدل عن الأحق الأصلح إلى غيره، لأجل قرابة بينهما أو ولاء عتاقة أو صداقة، أو مرافق في بلد، أو مذهب أو طريقة، أو جنس، كالعربية والفارسية والتركية والرومية، أو لرشوة يأخذها منه من مال، أو منفعة أو غير ذلك من الأسباب، أو لضِغْنٍ في قلبه على الأحق، أو عداوة بينهما؛ فقد خان الله ورسوله والمؤمنين، ودخل فيما نهي عنه، في قوله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ)[الأنفال: ٢٧].

 

ثم قال -تعالى-: (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ)[الأنفال: ٢٨]. فالرجل لحبّه لولده قد يُؤثره في بعض الولايات، أو يعطيه ما لا يستحقه، فيكون قد خان أمانته، وكذا قد يؤثره زيادة في ماله أو حفظه، بأخذ ما لا يستحقه، أو محاباة من يداهنه في بعض الولايات، فيكون قد خان الله ورسوله، وخان أمانته".

 

وقال -رحمه الله-: "ثم إن المؤدي للأمانة مع مخالفة هواه يثيبه الله فيحفظه في أهله وماله بعده، والمطيع لهواه: يعاقبه بنقيض قصده، فيُذلُّ أهله ويُذهبُ ماله، وذكر الحكاية المشهورة عن عمر بن عبد العزيز -رحمه الله-: أنه قيل له يا أمير المؤمنين أفقرت أفواه بنيك من هذا المال، وتركتهم فقراء لا شيء لهم، وكان في مرض موته.

 

فقال: أدخلوهم عليَّ، فأدخلوهم وهم بضعة عشر ذكراً ليس فيهم بالغ، فلما رآهم ذرفت عيناه، ثم قال لهم: "يا بَنِيَّ والله ما منعتكم حقاً هو لكم، ولم أكن بالذي آخذ أموال الناس فأدفعها إليكم، وإنما أنتم أحدُ رجلين: إما صالح فالله يتولى الصالحين، وإما غير صالح فلا أخلف له ما يستعين به على معصية الله، قوموا عني"، قال الراوي وهو من خلفاء بني العباس: فلقد رأيت بعض بنيه حمل على مائة فرس في سبيل الله، يعني أعطاها لمن يغزو عليها.

 

فيا معشر المسلمين: اتقوا الله -تعالى-، أدوا ما ائتمنتم عليه على الوجه الأكمل، تذكروا رقابة الله وموافاته بالعمل، وأن وعده بذلك حق، لا تغتروا بكثرة المفرطين في أداء ما ائتمنوا عليه، المغرورين بزخرف الحياة.

 

 أعوذ بالله من الشيطان الرجيم؛ (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ)[لقمان: ٣٣] بارك الله...

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق، ليظهره على الدين كله، وكفى بالله شهيداً، أحمده -سبحانه- وأشكره وأسأله المزيد من فضله، وأستغفره وأتوب إليه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وخيرته من خلقه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين، وسلم تسليماً كثيراً.

 

أما بعد: أيها المسلمون: فإني أوصيكم ونفسي بتقوى الله -تعالى-، ومن ذلك أن نتقيه بأداء الأمانة على الوجه الأكمل، واعلموا -رحمكم الله- أنه كما تكون الأمانة في الولاية، كذلك تكون في الأموال، قال -تعالى-: (وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ)[البقرة: ٢٨٣]، وقال -تعالى- (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ)[المؤمنون: ٨]، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "من أخذ أموال الناس يريد أداءها أداها الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله"(رواه البخاري).

 

 وذكر ابن تيمية -رحمه الله- الأمانة في الأموال، وبين أنها تتناول الولاة والرعية، ثم قال: "فعلى كل منهما أن يؤدي إلى الآخر ما يجب أداؤه إليه، فعلى ذي السلطان ونوابه في العطاء: أن يؤتوا كل ذي حق حقه، وعلى جُبَاة الأموال كأهل الدِّيوان: أن يؤدوا إلى ذي السلطان ما يجب إيتاؤه إليه، وكذلك على الرعية الذين تجب عليهم الحقوق".

 

عباد الله: لا يخفى ما للولاة الصالحين من أثر في أداء أمانتهم، فقد حُمِلَ مرةً إلى عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- مال عظيم من الخمس، فقال: إن قوماً أدوا الأمانة في هذا لأمناء، فقال له بعض الحاضرين: "إنك أديت الأمانة إلى الله -تعالى-، فأدوا إليك الأمانة، ولو رتعت رتعوا".

 

 اللهم وفقنا وولاة أمورنا للقيام بأداء ما ائتمنا عليه، وأعنا على ذلك يا حي يا قيوم، اللهم ارزقنا البراءة في ذلك يوم نلقاك يا أرحم الراحمين.

 

 (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56].

 

المرفقات

أداء الأمانات.doc

أداء الأمانات.pdf

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات