عناصر الخطبة
1/التحذير من التهاون في اقتراف الآثام والمعاصي 2/خطورة الوقوع في أعراض الناس وأموالهم 3/الحث على إعطاء كل ذي حق حقه 4/بعض صور المظالم التي يجب على المسلم اجتنابهااقتباس
حضَر ذلك المفلسَ شحٌّ فأطاعَه، ودعاهُ هوًى فاتَّبَعَه، فظَلَم هذا وشتَم ذاكَ، وأخَذ مالَ هذا وسفَك دمَ ذاك، وظنَّ أنَّ الصلاةَ والصيامَ والصدقةَ تُكفِّرُ الذنوبَ جميعًا، وذلك الظنُّ الذي أرداه فأصبح من أخسر الناس صفقةً وأظهرهم حسرةً...
الخطبة الأولى:
الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، قيومِ السماواتِ والأرضين، مدبِّرِ الخلائقِ أجمعين، باعثِ الرسلِ -صلواتُ اللهِ وسلامُه عليهم- إلى الخلقِ لهدايتهم وبيانِ شرائعِ الدينِ، وأشهدُ ألا إلهَ إلا اللهُ الحقُّ المبين، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدهُ ورسولهُ وخليلهُ أفضلُ المخلوقين، صلواتُ اللهِ وسلامُه عليه، وعلى سائرِ النبيينَ والمرسلين.
أما بعدُ: فاعلموا -عبادَ اللهِ- أنَّ ربَّنا -جلَّ جلاله- خلقَ خلقه مجبولين على حبِّ اجتلابِ المنافعِ ودفعِ المضارِّ، وبُغْضِ ما كان بخلافِ ذلك، هذا فيه طبعٌ مركبٌ لا خلافَ بين الخلق فيه، موجودٌ في الإنسان والحيوان؛ فمن أجلِ ذلك أنشأ لهم -سبحانه- من الأرض أرزاقَهم، وجعل في ذلك ملاذًّا لجميع حواسهم، فتلطعت إليها أنفسُهم، وتعلقت بها قلوبُهم، فلو تركهم خالقُهم واصلَ الطبيعةِ مع ما مكنَّ لهم لصاروا إلى طاعةِ الهوى، ولذهب التعاطفُ والتراحمُ والتبار، ولَبغى بعضُهم على بعض، فعلم الله أنهم لا يتعاطفون بعد الأمر والنهي والترغيب والترهيب إلا بالتأديب، فشرع وهو العليم الحكيم الحدود، وأمرَ بالعدل وحضَّ عليه ووعد أهله بجزيلِ الثواب، وحرم الظلمَ وحذرَ منه وأوعَد عليه بأليمِ العقابِ.
ومن رحمته أن أبان لعباده ما يحفظ ثوابَ أعمالهم؛ ليجدوه في صحائفِ حسناتِهم أحوجَ ما كانوا إليه، وأوضح لهم ما يبطلها ليحذروه فلا يتقحموا فيه، فقال -جلَّ ثناؤه-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ)[مُحَمَّدٍ: 33].
أيها المسلمون: إنَّ التهاونَ ببعضِ الذنوبِ مَهلَكةٌ وضلالٌ عن طريقِ الهدى، وسقوطٌ في مهواةِ التلفِ، فكم من عاملٍ ناصبٍ في طاعةِ اللهِ، يتبعُ الفرائضَ والنوافل، لكنه مفلسٌ قد ذهبت جلُّ أعماله هباءً منثورًا!، وما ذاك إلا لجهله أو تهاونه بما يحبط الأعمال الصالحة، وما يسلكه في عداد المفلسين الذين عين رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- أوصافَهم في قوله: "أَتَدْرُونَ مَنِ الْمُفْلِسُ؟ قَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ. فَقَالَ: إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي مَنْ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ، وَيَأْتِي وَقَدْ شَتَمَ هَذَا، وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا، فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ، أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ".
حضَر ذلك المفلسَ شحٌّ فأطاعَه، ودعاهُ هوًى فاتَّبَعَه، فظَلَم هذا وشتَم ذاكَ، وأخَذ مالَ هذا وسفَك دمَ ذاك، وظنَّ أنَّ الصلاةَ والصيامَ والصدقةَ تُكفِّرُ الذنوبَ جميعًا، وذلك الظنُّ الذي أرداه فأصبح من أخسر الناس صفقةً وأظهرهم حسرةً، كيف لا وقد قال الحريصُ على أمته -صلواتُ ربي وسلامُه عليه-: "اتقُوا الظلمَ فإنَّ الظلمَ ظلماتٌ يومَ القيامة، واتقُوا الشحَّ فإنَّ الشحَّ أهلكَ مَن كان قبلكم وحملهم على أن سفكوا دماءهم، واستحلّوا محارمهم".
ألَا فليعلم العبدُ الذي يريد النجاةَ لنفسه أنَّ السلامةَ من حقوقِ العباد بعد أداءِ الفرائضِ هي سبيلُ المتقين، والطريقُ الموصلةُ إلى رحمةِ ربِّ العالمين؛ (يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ)[الشعراء: 88-89].
وقد نطقَ كتابُ الله -تعالى-، وبيَّنَ رسولُه -صلى الله عليه وسلم- أصولَ المظالم ليحذرها العبادُ، وأنها دائرةٌ على ثلاثة أصول: الدماءُ، الأموالُ، والأعراض، فأبدى الشارعُ فيها وأعاد، وفصل وبين، وكان ذلك من آخر ما وعظ به -صلى الله عليه وسلم- أمته، في خطبته يومَ النحر بمنى حين قال: "إنَّ دماءَكم وأموالَكم وأعراضَكم حرامٌ عليكم، كحرمةِ يومِكم هذا، في بلدكم هذا، ألا هل بلغت؟ اللهم اشهد".
وقد اختار -عليه الصلاة والسلام- لهذا البلاغِ المبينِ مجمعًا عظيمًا، في يومٍ عظيمٍ وبلدٍ عظيمٍ؛ لتتمَّ الحجةُ على الناس، فيأمن بعضُهم بعضًا، وتستقيم حياتُهم، ويصلح لهم شأنُ دينهم ودنياهم.
عبادَ الله: إن من أعظمِ المظالم التي أوعَد اللهُ -تعالى- عليها بأليمِ العقابِ أن يحلفَ المسلمُ على الكذب فيستحلَّ به مالَ امرئٍ مسلم، قال -عليه الصلاة والسلام-: "من اقتطع حقَّ امرئٍ مسلم بيمينه؛ فقد حرّم الله عليه الجنة، وأوجب له النار". فقالوا: يا رسول الله! وإن كان شيئًا يسيرًا؟! قال: "وإن كان قضيبًا مِنْ أَراكَ".
ومما يلحق بذلك الغشُّ في البيع والتجارات، فإنه من ظلمِ العباد وأكل أموالهم بالباطل، فإن أضيف إليه الحلفُ على جودة تلك السلعة والحالُ بضدِّ ذلك كان الإثم أعظم؛ ففيه قال -عليه الصلاة والسلام- منذرًا ومحذرًا: "ثلاثةٌ لا يكلّمهم الله يوم القيامة: المَنّانُ الذي لا يعطي شيئًا إلا منّه، والمنفقُ سلعتَه بالحلفِ الفاجر، والمُسْبِلُ إزارَه".
ومن الغش في البيوع كتمُ عيوب السلعة وإخفاؤها، في صور كثيرة يعلم التقيُّ طالب النجاة لنفسه خطرها وضررها على نفسه قبل غيره، فالإثم ما حاك في النفس، وتردّد في الصدر.
ألَا وإنَّ من صُوَرِ مظالمِ المالَ التي يتهاون فيها كثيرٌ من الناس مع ثبوت الوعيد عليها أكلُ أموال اليتامى، فقد ثبَت الوعيدُ الشديدُ على مَنْ تولَّى مالَ يتيمٍ فأكلَه، وذلك في قول الحق المبين -سبحانه-: (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا)[النساء: 10]، وقوله -عز شأنه-: (وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا)[النساء: 2]، وقال -عليه الصلاة والسلام-: "اجتنِبوا السبعَ الموبقاتِ"، فذكَر منها: "أكل مال اليتيم".
ومن المظالم المالية العظيمة منعُ حقوق الأجراء من العمال والمستخدَمينَ ونحوهم، أو تأخيرها، أو المماطلة في إعطائها، أو نقصانها، أو تحميل الأجير عملًا زائدًا على المتفَق عليه من غير زيادة له في الأجر، قال -صلى الله عليه وسلم-: "قال الله -تعالى-: ثلاثة أنا خصهم يوم القيامة: رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باعَ حُرًّا ثمَّ أكَل ثمنَه، ورجل استأجر أجيرًا فاستوفَى منه ولم يعطه أجرَه".
ومن المظالم المالية العظيمة أن يستعمل الموظف على تحصيل زكاة أو صدقة فيقتطع منها نصيبا لنفسه، وفي ذلك قال -عليه الصلاة والسلام-: "وَاللهِ لَا يَأْخُذُ أَحَدٌ مِنْكُمْ شَيْئًا بِغَيْرِ حَقِّهِ إِلَّا جَاءَ يَحْمِلُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ".
اللهمَّ انفعنا بكتابك الذي أنزلته هدى ورحمة للمؤمنين، وبسنة نبيك سيد المرسلين، أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ حقَّ حمدِه، والصلاةُ والسلامُ على نبيِّه وعبده، وعلى آله وصحبه من بعده.
أما بعدُ: فالنجاءَ النجاءَ -عبادَ الله- قبلَ فواتِ الأوانِ، وليتداركْ أحدُنا ما دامَ في زمانِ الإمكانِ، متبعًا ما أمرَ الرؤوفُ الرحيمُ أمَّتَهُ بقوله -عليه الصلاة والسلام-: "مَنْ كَانَتْ لَهُ مَظْلَمَةٌ لِأَخِيهِ مِنْ عِرْضِهِ أَوْ شَيْءٍ فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهُ الْيَوْمَ قَبْلَ أَنْ لَا يَكُونَ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ"؛ أي: فليرُدَّ الحقوقَ التي عليه مادامَ في الدنيا، فإنَّ الآخرةَ لا تُرَدُّ الحقوقُ فيها بالدينارِ والدرهمِ، ولا يتخلصُ منها بمجردِ التوبةِ، وإنما هو القصاصُ، واستيفاءُ الحقوقِ من رصيدِ الحسناتِ التي فيها في ميزانِ الظالمِ إن كانت له حسنات، وإلا أخذَ من سيئاتِ المظلومينَ، فطُرحتْ عليه، نعوذُ بالله من الخِذلان.
أيها المسلمون: إنَّ كَفَّ الأذى عن الخَلْقِ حقٌّ لكلِّ مسلمٍ على أخيه المسلم، يبلغُ به مؤدِّيه مرتبةً عَلِيَّةً عندَ ربِّه، فيكونُ من خيارِ الناسِ، جاءَ رجلٌ إلى رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: أيُّ الناسِ خيرٌ؟ قال: "رَجُلٌ جَاهَدَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، وَرَجُلٌ فِي شِعْبٍ مِنَ الشِّعَابِ: يَعْبُدُ رَبَّهُ، وَيَدَعُ النَّاسَ مِنْ شَرِّهِ"، وسُئل -عليه الصلاة والسلام- عن أفضل الأعمال فقال فيما قال: "وتكفُّ شرَّكَ عن الناس فإنها صدقةٌ منكَ على نفسِكَ".
عبادَ الله: إنه لا كمالَ للنفس إلا بالصلاةِ والسلامِ على رسولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، وإنها من لوازمِ محبته ومتابعتِه، فأكثِرُوا من الصلاة والسلام على نبيِّكم تَعظُم أجورُكم، وتُغفَر بها ذنوبُكم.
اللهمَّ صلِّ وسلِّمْ وبارِكْ على سيدنا ونبينا وإمامنا وحبيبنا محمد بن عبد الله، عددَ ما ذكره الذاكرون، وغفل عن ذكره الغافلون المحرومون.
اللهمَّ وارضَ عن خلفائه الراشدين، الأئمة المهديين؛ أبي بكرٍ وعمرَ وعثمانَ وعليٍّ، وعن أصحابه الكرام أجمعين، وعن تابعيهم ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
اللهمَّ أعزَّ الإسلام والمسلمين، وأذلَّ الشرك والمشركين، ودمر أعداءك أعداء الدين، اللهمَّ كن لعبادك المستضعفين في كل مكانٍ معينا وظهيرا، ومؤيدا ونصيرا، اللهمَّ انصر عبادك المظلومين في فلسطين على اليهود الظالمين، اللهمَّ اجعل لهم مما هم فيه من الكرب فرجًا عاجلًا، ومما هم فيه من الضيق مخرجًا ورزقًا حسنًا، اللهمَّ أطعمهم من جوع، وآمنهم من خوف، اللهمَّ عليك بالصهاينة الغاصبين المعتدين، اللهمَّ اشدد وطأتك عليهم، واهزمهم وزلزلهم وأدر دائرةَ السوء عليهم.
اللهمَّ آمِنَّا في أوطاننا ودُورِنا، ووفِّق اللهمَّ أئمتَنا وولاةَ أمورنا، اللهمَّ وفِّق وليَّ أمرِنا وإمامَنا خادمَ الحرمين الشريفين لما تحب وترضى، وخذ بناصيته للبرِّ والتقوى، اللهمَّ أعنه وولي عهده على ما فيه خير العباد وصلاح أمر المعاش والمعاد.
سبحانَ ربِّنا ربِّ العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمدُ لله رب العالمين.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم