عناصر الخطبة
1/حاجة الناس إلى سؤال أهل العلم 2/عِظَم مكانة المفتي في الإسلام 3/تورع السلف عن الإفتاء 4/خطورة التساهل في الفتوى 5/وصايا للمفتين وطلبة العلم 6/وصايا للمستفتين والسائلين 7/بشرى للمفتين والعلماء الربانيين.اقتباس
لئن كانت الفتوى بغير علم سيئة، فإن الإفتاء بعِلْم حسنة عظيمة؛ إذ فيها تصحيح عقيدة، وإصلاح عبادة، وكشف كربة، وهداية حائر، وتعليم جاهل؛ فلْيحتسب كل مَن سُئل وكان من أهل العلم؛ فثوابه عند الله عظيم، ويكفيه أنه مُبلِّغ عن الله دينه ووارث عن رسول الله علمه، فيهنأ بفضل ربه، ولا يَضْجر من مسألة السائلين...
الخطبةُ الأولَى:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه...
أما بعد: فاتقوا الله -يا كرام- واعتبروا بسرعة مرّ الأيام واعملوا في أيامكم ما يُرْضِي العلام، وتجنبوا الذنوب والآثام.
عباد الله: خلق الله الخلق وأمرهم أن يعبدوه بما يعرفون، وأن يسألوا عما يجهلوه، ويستفتوا أهل العلم فيما لا يعلموه، وقال في محكم تنزيله: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ)[النحل: 43].
فمن عَلِم أمراً عمل به، ومن خفي عليه عِلْمُ أمرٍ شُرِعَ له أن يسأل مَن يعلم، ولا غِنَى لغالب الناس عن الفتوى، فعن طريقها يَعرف العامة أحكام دينهم وطرائق عبادة ربهم.
عن طريق الفتوى نتعرف على الحلال والحرام، وعلى الأجور والآثام، بالفتوى يذهب الحرج عن السائل فيعبد ربه على بصيرة وتتجلى له أحكام الشريعة.
ولهذا فالمفتي غيره مُوَقِّع عن الله، ومُبلِّغٌ لدين الله، ووارثٌ لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فله في الدين المكانة العظيمة، فإن أصاب استنار السائل وأُجِر المسؤول، وإن أخطأ مع اجتهاده لم يُخلَ من أجر اجتهاده، وإن زل العالِم زل بزلته عالَم.
قال ابن القيم مبيناً مكانة المفتي: "فإذا كان منصب التوقيع عن الملوك بالمحل الذي لا يُنكَر فضلُه ولا يُجهل قَدْره، وهو من أعلى المراتب السنيات، فكيف بمنصب التوقيع عن رب الأرض والسموات؟!
ولعظيم مكانة الفتوى لم يكن يتبوأ سنامها ويرتقي مراكبها إلا مَن نالوا العلم حقاً؛ لأن المفتي قائم في الأمة مقام النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهو نائبه في تبليغ الأحكام.
ومع هذا فلم يكن السلف والعلماء المحققون يبحثون عنها، بل كانوا يتحاشون الإكثار منها، ويتخوفون من الفتيا بغير علم، ومع وجود العلم عندهم كانوا يتمنون أن كلّ واحدٍ منهم كفاه غيره عنها، قال ابن أبي ليلى -رحمه الله-: "أدركت عشرين ومائة من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما منهم رجل يُسأل عن شيء إلا ودَّ أن أخاه كفاه، ولا يُحدِّث حديثاً إلا ودَّ أن أخاه كفاه".
وقال شيخ من أهل المدينة: كنت أرى الرجل في ذلك الزمان وإنه ليدخل يسأل عن الشيء فيدفعه الناس من مجلس إلى مجلس حتى يُدفعَ إلى مجلس سعيد بن المسيب كراهية الفتيا، وكانوا يدْعون سعيد بن المسيب الجريء.
ولقد سُئِلَ ابنُ عمرَ يوماً عن شيء فقال: لا أدري، فلما ألح عليه السائل غضب، ثم قال: أتريدون أن تجعَلوا ظهورنا لكم جسورًا في جهنَّم، أن تقولوا: أفتانا ابنُ عمرَ بهذا.
عباد الله: تلك هي أحوال أهل العلم والورع، تورع عن الفتيا إلا إن احتيج إليه، ولا يفتي إلا عالم، وأما اليوم فمن كوارث الزمن أن ترى التساهل في هذا الباب، حين ولج فيه مَن يحسن ومَن لا يحسن، وتخوَّض فيه مَن قلّ علمه، ورحم الله سحنون حين قال: "أجسر الناس على الفتوى أقلهم علماً".
ومن عجبٍ أن يُحْجِم الكافَّةُ عن التطاول على عمل الطبيب والمهندس وغيرهم من أصحاب العلوم، فإذا ما جاء علم الشريعة وطرح المسألة في مجلس، تطاول الناس وتعالموا، فهذا يقول أظن، وذاك يقول كأنه، وثالث يقول أنا لا أفتي، لكن الحكم كذا.
وصرت ترى البعض يظنُّ وجودَ الخلاف الفقهي مجالاً أن يختار من الأقوال ما يريد، والواقعُ أنه ليس كل خلافٍ منقول، ورأي منحولٍ يمكن له أن يقال به.
وراجت لدى البعض عبارة "كلٌّ يُؤخَذ من قوله ويرد"، وعبارة "نحن رجال وهم رجال"؛ فأصبحتَ ترى مَن يتناول هذه الآراء على أنها قابلةٌ كلها للاختيار، فتراه مرةً مع هذا المذهب في تحريم ما لا يرغب، وأخرى مع ذلك الإمام في إباحة ما يريد، ومعلومٌ أنه ليس كل اختلاف يسوِّغ لنا أن نتخير من الأقوال ما وافق مرادنا.
قال الشيخ بكر أبو زيد: "ولم يُفلِح مَن جعل مِن هذا الخلاف سبيلاً إلى تتبُّع رُخَصِ المذاهب، ونادر الخلاف، والتقاط الشواذ، وتبني الآراء المهجورة، والغلط على الأئمة، ونصبها للناس ديناً وشرعاً".
معشر الكرام: نعم ليست الفتوى حِكراً في الشرع على أناس يتبوؤون وظيفة معينة، بل هي وظيفة كل امرئٍ من أهل الذكر في أيّ مكان حلّوا وأيّ وظيفة عملوا، ولكن لا بد من معرفة من يُسأل، ومن يستفتى، فسهولة الوصول للمعلومة اليوم عبر النت، ليس معناه سهولةَ الفتوى.
ولا ينبغي للمرء أن يحرص على التصدر للإفتاء، وقد ورد عند الدارمي: «أَجْرَؤُكُمْ عَلَى الْفُتْيَا أَجْرَؤُكُمْ عَلَى النَّارِ».
وإذا سُئِل المرء فليتفكر في خلاصة بين يدي ربه، لا أن يكون همه مقتصرًا على تخليص السائل، وليحذر من أن يفتي بغير علم صحيح، وأن يتكلم في أمرٍ لا يحسنه، فمن شنائع الأقوال أن يقول المرءُ على ربه ما لا يعلم، ومن تابعه على قولٍ قاله بغير علم فالإثم على المفتي لا على العامل، وفي السنن "مَنْ أُفْتِىَ بِغَيْرِ عِلْمٍ كَانَ إِثْمُهُ عَلَى مَنْ أَفْتَاهُ».
وعليه أن يراعي اختلاف أحوال السائلين وبلدانهم وأزمانهم، فليس بالضرورة ما يصلح هنا يصلح هناك.
وليحذر من التسرع قبل تبيّن الأمر، فكم جرّت العجلة في الفتوى من أمورٍ ربما لم تحمد.
وأن يتجنب شاذَّ الآراء ومهجور الأقوال، فالحقُّ عليه نور، وليس كل قول قيل يجيز لك أن تأخذ به، وقد أثر عن السلف قولهم: "مَن تتبع رُخَص المذاهب رقَّ دينه".
وبعد هذا، فإذا استقر رأيٌ لدى طالب علم وهو على خلاف ما عليه الفتوى فليتثبت قبل بثّ مثل هذا الرأي، وليتقِ الله أن يفتح على الناس باباً صدف عنه العلماء من قبله، وفرقٌ بين رأيٍ لك ورأيٍ تنشره على الملأ، وكم من فتوى من بعض الناس ضرّت أكثر مما نفعت، وربما فُهِمت على غير ما سيقت، والعلم شيء والفقه والحكمة شيء آخر.
الخطبة الثانية:
أما بعد: فإّذا كان ما سبق هو في حق المسئول والمفتي، فإن مما ينبغي أن يقال للمستفتي: أنه تجاه الفتوى ينبغي أن يتقي الله، وأن يسأل أهل العلم الموثوقين الذين يضعون تقوى الله نُصْب أعينهم، والكتابَ والسنة دليلهم ومنهجهم، فليس بالضرورة أن يكون المثقف أو الداعية أو الخطيب مفتياً، حتى يُعرف عنه العلم ومع العلم التحري والورع، وفي هذا قال ابن سيرين: "إن هذا العلم دين؛ فانظروا عمن تأخذون دينكم".
فإذا وُجِد أكثرُ من عالمٍ اختار أيهَم شاء، فإذا سأل مجتهداً فلا يسأل غيره، إلا إن وجد أوثق منه، فلا بأس أن يستفتيه.
وإذا تعارض عنده فتوى عالمين؛ وجب عليه الترجيح بينهما، بأن يقدم رأي الأوثق في دينه والأتقى لربه.
وتتابُعُ العلماء على رأيٍ يُعطي النفس طمأنينة إليه بخلاف رأي ربما لا يُعرف من قال به إلا واحد.
وربما سأل المرء عن أمرٍ فأُفْتِيَ بأمرٍ لم تطمئن نفسه له، وربما علم الحق بخلافه، وحينها ليس له أن يتكئ على هذا، بل إذا لم تطمئن النفس للفتوى فليسأل غيره ويتحرى.
قال ابن القيم: "لا يجوز العمل بمجرد فتوى المفتي إذا لم تطمئن نفسه وحاك في صدره من قبوله وتردد فيها؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "استفت نفسك وإن أفتاك الناس وأفتوك"؛ فيجب عليه أن يستفتي نفسه أولاً، ولا تُخلّصه فتوى المفتي من الله إذا كان يعلم أن الأمر في الباطن بخلاف ما أفتاه".
وبعد هذا: فالعالم ليس بمعصوم، فإذا أخطأ وعرفت أن رأيه هذا زلة بالنظر في أقوال أهل العلم الآخرين، فلا تتبعه في زلته، ومع هذا فلا تهدم سابقته ولا تدخل في نيته، فالنوايا أمرها إلى الله، وإذا كان الأصل في عامة المسلمين السلامة؛ فالأصل في علماء المسلين الديانة والورع والاستقامة.
وبعد: فلئن كانت الفتوى بغير علم سيئة، فإن الإفتاء بعلم حسنة عظيمة؛ إذ فيها تصحيح عقيدة، وإصلاح عبادة، وكشف كربة، وهداية حائر، وتعليم جاهل؛ فلْيحتسب كل مَن سُئل وكان من أهل العلم؛ فثوابه عند الله عظيم، ويكفيه أنه مُبلِّغ عن الله دينه ووارث عن رسول الله علمه، فيهنأ بفضل ربه، ولا يَضْجر من مسألة السائلين، ولْيُخلص لربه عمله، وليسأله السداد في القول والعمل.
وصلوا وسلموا....
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم