الكبير بين وقار وتوقير

الشيخ عبدالعزيز بن محمد النغيمشي

2025-08-22 - 1447/02/28 2025-09-15 - 1447/03/23
عناصر الخطبة
1/كل قوة يلحقها ضعف 2/من خصائص مرحلة الكبر 3/يضعف كل الإنسان إلا أمله وحرصه 4/أهمية التحلي بالوقار عند كبر السن 5/الحث على توقير كبار السن 6/تحذير الأولاد من إظهار والديهم بصورة لا تليق بسنهما

اقتباس

ومِما يُجِبُ على الأَبناءِ والبَناتِ أَنْ يُدْرِكُوه، أَنَّ مَقامَ الوَالِدَيْنِ عَظِيْمٌ، وأَنَّ إِظْهارَهُما في وَسائِلِ التَواصُلِ بِصُورَةٍ تُقَلِّلُ مَنْ مَهابَتِهِما، أَو جَعْلُ الوَالِدَيْنِ مُحتَوىً للأَبْناءِ في بَثِّ يَومِيَّاتِهِم، يُظْهِرُونَ فيهِ الوَالدَينِ أَو أَحَدِهِما بِصُورٍ لا تَرْتَقِيْ بِمَقامِهِما في أَعْيُنِ الرَّائِيْن، أَنَّ ذَلِكَ ضَرْبٌ...

الخُطْبَةُ الأُولَى:

 

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)[آل عمران: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب: 70-71].

 

أيها المسلمون: ومَنْ يُعَمَّرُ في الدُّنْيا يَرَى عَجَباً، يَرَى الحَياةَ سَراباً يُعْجِزُ الطَلَبا، الحَياةُ مَدْرَسَةٌ حَوَتْ مِنَ العِبَرِ ما يُوقِظُ القَلْبَ، ويَهْدِيْ البَصِيْرَةَ، ويَكْشِفُ الحَقِيْقَةَ، ويُزِيْلُ الغِشاءَ، طُفُولَةٌ قُرِنَتْ بِضَعْفٍ، ثُمَّ شَبابٌ قُرِنَ بِقُوَّةٍ، ثُمَ شَيْخُوخَةٌ قُرِنَتْ بِضَعْف، كَمنازِلِ القَمَرِ، أَبْدَرَ وَضَّاءً وقَدْ كَانَ هِلالاً، ثُمَّ صَارَ بَعْدَ الإِبْدارِ هِلالاً.

 

رِحْلَةُ المرءِ في الحَياةِ بِدايَتُها مَعْلُومَةٌ، ومُنْتَهاها يَومٌّ مُغَيَّب، مُنْطَلُقُ المَرْءِ في هذهِ الحَياةِ يَومَ وُلِد، ومَنْتَهاهُ فِيْها يَومَ يُدْعَى للرَّحِيْل؛ (وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ)[لقمان: 34].

 

ولَيْسَ لِمِيْعادُ الرَّحِيْلِ سِنٌّ، ولَيْسَ لِمِيْعادِ الرَّحِيْلِ مِيقاتٌ بِهِ المرءُ يَعْلَمُ، مَنْ انْقَضَى أَجَلُهُ في هذهِ الحَياةِ رَحَل، يَرْتَحِلُ من الحَياةِ طِفْلٌ، ويَرْتَحِلُ مِنْها شَابٌّ، ويَرْتَحِلٌ مِنها كَهْلٌ وشَيْخٌ، آجالٌ مَضْرُوبَةٌ، وأَعمارٌ مُقَدَّرَة؛ (فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ)[الأعراف: 34]، ومَنْ يُمَدّ لَهُ في العُمْرِ، ويُنْسأ لَهُ في الأَجَلِ؛ تَنْحَنِ بِهِ السِنِيْنُ إِلى ضَعْفٍ، وتَحُطُّ بِهِ الليَالِي إِلى هَرَم؛ (وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ)[يس: 68].

 

لَكُلِّ مَرْحَلَةٍ مِنْ مَراحِلِ العُمُرِ مَقامٌ يَلِيْقُ بِها، ومَرْحَلَةُ الكِبَرِ مَقامُها سَكِيْنَةٌ وَوَقار، مَرْحَلَةُ الكِبَرِ تَبْدأُ بَعْدما تَتَصَرَّمُ أَيامُ القُوَّةِ، وتَنْطَلِقُ بَعْدَما تَتَرَحَّلُ أَيامُ الشَّبَابِ، مَرْحَلُةُ الكِبَرِ هِيَ المَرْحَلَةُ التِيْ يَسْتَوِيْ فِيْها العَقْلُ، ويَتَّزِنُ فِيْها الفِكْرُ، ويَنْضُجُ فِيْها المرءُ، ويُدْرِكُ فيها الحَقائِقُ بِجلاءٍ ووضُوح.

 

مَرْحَلَةُ الكِبَرِ، مَرْحَلَةٌ حَلَّتْ بَعْدَما تَخَطَّى المرءُ سِنِيْنَ فُتُوَّةٍ، واجَهَ فيها أَمْواجاً مِن الفِتَنِ والشَّهَواتِ، اضْطَرَبَ فيها مَرْكَبُهُ، وتَرَنَّحَ فيها قَارِبُه، وتَقَلَّبِتْ فِيْهَا مواقِفُه، حَتَى اسْتَوى على شَاطِئِ سِنِّ الأَرْبَعِين، وَعَلَى شَاطِئِ الأَرْبَعِيْنَ تَسْكُنُ عادَةً شِدَّةُ الأَعاصِيْرِ، وتَهدأُ عادَةً فَوْرَةُ الشَبابِ، ويَسْتَقِرُّ العَقْلُ، ويَهدأُ الفِكْرُ، ويَسْتَيْقِظُ في النَّفْسِ دَاعِيْ التَدارُكِ والاعتِبار؛ (حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ)[الأحقاف: 15].  

 

بَلَغَ أَرْبَعِيْنَ سَنَةً وَعِنْدَ لافِتَةِ الأَرْبعينَ، وَقَفَ يَنْظُرُ إِلى سالِفِ أَعْوامِهِ التِيْ انْصَرَمَتْ، كَيْفَ مَرَّتْ كَبَرْقٍ لاحَ ثُمَّ انْطفأَ؟! يَتأَمَلُ فيما أَوْدَعَهُ في الأَرْبَعِيْنَ مِنْ صَالحَاتٍ، وفِيْما اقْتَرَفَهُ فيها مِنْ سَيئِات، ثُمَّ يَتَأَمَلُ مُعْتَبِراً في سُرْعَةِ مُرُورِ هذهِ الحَياةِ، كَيْفَ انْصَرَمَ مِنْ العُمُرِ أَزْهاهُ وأَبْهاهُ وأَكْمَلُهُ وأَقْوَاهُ؟! ويَتَساءَلُ: كَمْ بَقِيَ لِي بَعْدَ الأَرْبَعِيْنَ في هذهِ الحَياة؟.

 

اسْتَوَى على ظَهْرِ الأَرْبَعِيْنَ، وهُوَ بَعْدَها سَيَنْحَدِرُ إِلى مَراحِلِ الضَّعْفِ شَيئاً فَشَيئاً، فَلَيْسَ بَعْدَ استِواءِ القُوةِ إِلا تَداعِيْ الضَّعْفِ لَو يَعْلَمُون؛ (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً)[الروم: 54].

 

اسْتَوَى على ظَهْرِ الأَرْبَعِيْنَ، ومَنْ اسْتَوى على الأَرْبَعِيْنَ خُوطِبَ بِخِطابِ الكِبارِ المُوَقًّرِيْن، وكُلَّما ابْتَعَدَ المرءُ عَنْ سِنِّ الأَرْبَعِيْن ابْتَعَدَ عَنْ مَنازِلِ القُوَّةِ، ودَنا إِلى مِنْ مَنازِلِ الضَّعْفِ، وكُلُّ سَنَةٍ تَمْضِيْ على المَرْءِ، فَإِنَّما هِيَ لَهُ إِعذارٌ مِنَ اللهِ وإِنْذارٌ، تَتَوالى عليه الحُجُجُ بِتَوالِي السِنِيْن، ويَتَكَرَّرُ عليهِ الإِعذارُ بِتَقَدُّمِ الأَعْمار، حَتَى إِذا ما بَلَغَ المرءُ سِنَّ السِتِيْنَ، تَناهَتْ بِساحَتِهِ النُذُرُ واسْتَوفَتِ بِبَابِهِ المَعاذِيرُ، فأَنَى لَهُ بَعدَ ذاكَ العُمْرِ أَنْ يَبْقَى على الجَهْل، أَو يَبْقَى على الزَلَلٍ؟! عَنْ أبي هُرَيْرَةَ -رضي اللهُ عنه- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "أَعْذَرَ اللَّهُ إلى امْرِئٍ أخَّرَ أجَلَهُ، حتَّى بَلَّغَهُ سِتِّينَ سَنَةً"(رواه البخاري).

 

يُحاسَبُ المرءُ على أَعْمالِهِ مُنذُ أَنْ بَلَغَ، ويُدْعَى إِلى التَدارُكِ والتَوبَةِ في كُلِّ حِيْن، ويُنادى عليه بالإِفاقَةِ قَبْلَ أَنْ يَرْحَل، ولكِنَّ الكَبِيْرَ الذِيْ لاحَتْ لَهُ أَعلامُ النِهايَةِ أَوْلَى بالإِفاقَةِ، فَما عَادَ لَهُ كَبِيْرُ فُسْحَةٍ في الإِنْظار؛ (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ)[فاطر: 37].

 

مَرْحَلةُ الكِبَرِ مَرْحَلَةُ كَرِيْمَةٌ لِمَنْ أَكرَمَها، مَرْحَلَةُ الكِبَرِ مَنْ أَدْرَكَها، فَقَد أَدْرَكَ مِنَ اللهِ أَعْظَمُ الهِبَات؛ دَواوِيْنُ الحَسانَاتِ لَهُ تَتَضاعَف، وسِجِلاتُ الصَالحَاتِ لَهُ تَزْداد، كَمْ خُطَّتْ لَهُ عَبْرَ السِنِيْن مِنْ حَسَنات، صَلاةٌ، وصِيامٌ، وصَدَقَةٌ، وإِحْسانٌ، ودُعاءٌ، واسْتِغفارٌ، وذِكْرٌ، وقُرْآنِ، صِلَةُ، وبِرٌّ، ونَفْعٌ، ومُسارَعَةٌ في شَتَى شُعَبِ الإِيْمان.

 

أَلا ما أَكْرَمَ العُمُرَ حِيْنَ يُكْرِمُهُ الإِنْسان، أَلا ما أَكْرَمَ العُمُرَ حِيْنَ يُعْمَرُ بالتَقوى والإِيْمان، يُمَدُّ لِلْمرءِ في الحَياةِ، وهو يَسْتَكثِرُ فِيها من الصَّالحَات، عَنْ أبي هُرَيْرَةَ -رضي اللهُ عنه-، أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "لا يَتَمَنَّى أحَدُكُمُ المَوْتَ، ولا يَدْعُ به مِن قَبْلِ أنْ يَأْتِيَهُ، إنَّه إذا ماتَ أحَدُكُمُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ، وإنَّه لا يَزِيدُ المُؤْمِنَ عُمْرُهُ إلَّا خَيْرًا"(رواه مسلم).

 

والمرءُ يَكْرَهُ أَنْ يُوصَفَ بالكِبَرِ، ويَكْرَهُ أَنْ تَبْدُو عليهِ مَظَاهِرُه، فَلا يَزالُ يُكافِحُ مَعالِمَ الكِبَرِ، ويُقاوِمُ مَنْ يأَتِيْهِ مِنْ رُسُلِه، حَتَى يَتَغْلَغَلَ الكِبَرُ في مَفاصِلِهِ ومَفارِقِهِ وأَعْظُمِه، فَيَغْلِبَهُ؛ (قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا)[مريم: 4].

 

يَكْرَهُ المَرءُ أَنْ يَمُوتَ ويَكْرَهُ المَرءُ أَنْ يَكْبُرَ، ولَيْسَ لَهُ سِوَى هذينِ السَبِيْلَيْنِ سَبِيْل، وكُلَّما كَبُرَ الإِنسانُ كَبُرَ في نَفْسِهِ الحِرْصُ، وكُلَّما تَقَدَّمَتْ بِهِ السِنِيْنُ تَقَدَّمَ أَمامَهُ الأَمَلُ، فِطْرَةٌ فَطَرَ اللهُ العِبادَ عليها، فَعَنْ أَبِيْ هُرَيْرَةَ -رضي اللهُ عنه-، أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "يَهْرَمُ ابنُ آدَمَ وتَشِبُّ منه اثْنَتانِ: الحِرْصُ علَى المالِ، والْحِرْصُ علَى العُمُرِ"(رواه مسلم).

 

ولا يُلامُ المرءُ في بَقاءِ الأَمَلِ في نَفْسِهِ، فَلَولا الأَمَلُ لَتَوالَتْ على المرءِ أَفْواجُ الهُمُوم، ولِكِنَّ المُلامَ مَنْ أَطالَ أَمَلاً فَقَصَّرَ في عَمَل، المُلامَ مَنْ أَطَالَ أَمَلاً فَما زَالَ يَنْهَمِكُ في ِمُتَعِ الحَياةِ ويَنْشَغِلُ بِها عَنْ استْعدادِهِ للأَجَل، يَعْمَلُ المرْءُ لِدُنْياهُ لا يُنْهَى ولا يُزْجَر، وحِيْنَما يطْغَى عَمَلُهُ للدُّنيا على عَمَلِهِ للآخِرَةِ، فَذَاكَ مُنْحَدَرُ المَخاطِر؛ (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ)[القصص: 77].

 

أقول قولي هذا، وأستغفِر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كلِّ ذنب، فاستغفروه إنَّه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية:

 

الحمدُ للهِ رَبِّ العَالمين، وأَشْهَدُ أَن لا إله إلا اللهُ ولي الصالحين، وأَشْهَدُ أَنَّ محمداً رسول رب العالمين، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين، وسلم تسليماً.

 

أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله- لعلكم ترحمون.

 

أيها المسلمون: مَنْ شَبَّ على شَيءٍ شَابَ عَلَيْهِ، وَمَنْ تَرَبَى على خُلُقٍ سَارَ عَلَيْهِ، وَمَنْ أَصْلحَ مَسِيْرَهُ حَالَ شَبابِهِ، سَهُلَ عليهِ الانْقَيادُ حَالَ مَشِيْبِه، ومَنْ أَمْهَلَ الصَالحَاتِ وأَخَرَّها لِوَقْتِ المَشِيْبِ، أَخْفَقَ في القَرَارِ وأَخطأَ في التَرْتِيْب.

 

فَكَمْ قُطِفَتْ أَعْمارٌ في زَهْرَةِ شَبابِها، وكَمْ مَرِضَتْ أَجْسادٌ ووَهَنَ أَصْحابُها، فَما أَدْرَكَ ذاكَ المُؤَمِلُ ما أَمَل، وَمَا بَلَغُ ذاكَ المُقَدِّرُ ما قَدَّر، والعَاقِلُ دَوماً على حَذرٍ مِنْ التَفْرِيْط، فَما يَدْرِيْ في أَيْ مُفْتَرَقٍ يَكُونُ رَحِيْلُه!.

 

مَرْحَلةُ الكِبَرِ مَرْحَلَةُ كَرِيْمَةٌ لِمَنْ أَكرَمَها، فَما الشَّيْبُ عَيْبٌ لِمَنْ تَحَلَّى بالوَقارِ، ما الشَّيْبُ عارٌ ولا مَنْقَصَه، ولا يَزَالُ الكَبِيرُ يُمَكِّنُ لِنَفْسِهِ مَكانَةً في قُلُوبِ النَّاسِ مَا تَجَمَّلَ بَالعَقْلِ، وتَخَلَّقَ بالحِلْمِ، وتَرَفَّعَ عَنْ مُقارَفَةِ الدَّنايا.

 

تَوقِيْرُ الكَبِيرِ خُلُقٌ رَفِيْعٌ ما تَخَلَّقَ بِهِ إِلا سَوِيٌّ، يُرَبَّى عليهِ الفِتْيَةُ كَيْ يَكْمُلُوا، فَمَنْ أَهانَ الكَبِيْرَ أَهانَ نَفْسَهُ، ومَنْ تأَدَبَ مَع الكَبِيْرِ وُصِفَ بالعَقْلِ والأَدَب، وفي الحَدِيْثِ: "إِنَّ مِنْ إِجْلَالِ اللَّهِ إِكْرَامَ ذِي الشَّيْبَةِ الْمُسْلِمِ"(رواه أبو داود).

 

ويَجْدُرُ بالكَبِيْرِ أَنْ يَتَحَلَّى بالمروءَةِ وأَنْ يَسْتَمْسِكَ بِها، في زَمَنٍ ظَهَرَتْ فيهِ بَعْضُ المَظاهِرِ المُؤْسِفَةِ مِنْ رِجالٍ تَجاوَزُوا سِنَّ الأَرْبَعِيْنَ، ولَمْ يَزالُوا يَتَصابَونَ في أَفْعَالِهِم، ويَتَصَابَونَ في تَصَرُّفَاتِهِم، ويَتَصَابَونَ في أَلفاظِهِم وهَيئَاتِهِم وأَلْبِسَتِهِم ومَظاهِرِهِم.

 

وَيَقْبُحُ بالفتى فِعْلُ التّصابي *** وأقبحُ منه شيخٌ قد تَفَتَّى

 

يَجْدُرُ بالكَبِيْرِ أَنْ يُبْقِيَ لِنَفْسِهِ مَكانَتَها، وأَنْ يَحْفَظَ لَها كَرَامَتَها، وأَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ مَحُطُ نَظَرٍ واقْتِداءٍ لِمَنْ هُمْ أَصْغَرُ مِنْه، فَيَحْتَشِمُ في أَلْفاظِهِ، ويَرْتَقِيْ في تَعامُلِهِ، ويَتَأَدَبُ في مَجْلِسِهِ، ويسْتَتِرُ في مَلْبَسِهِ.

 

وعلى الكَبِيْرِ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ ما قَدْ يُقْبَلُ فِعْلُهُ مِنَ الصَغَيْرِ، قَدْ لا يُقْبَلُ مِنَ الكَبِيْر، وأَنَّ ما قَدْ يُتَجاوَزُ عَنْهُ في حَقِّ الشَّابِ، قَدْ لا يُتَجاوَزُ عَنْهُ في حَقِّ مَنْ بَلَغَ المَشِيْب.

 

وَقارَكَ -أَيُها الكَبِيرُ- وقَارَك، فَما أَكَرَمَ النَّفْسَ مَنْ لَمْ يَحْفَظَ وَقارَها، وما زَكَّاها مَنْ لَمْ يَرْفَعَ لَها مِقْدارَها، وَمَنْ نَزَلَ بِنَفْسِهِ إِلى ساحَةٍ لا تَلِيْقُ بِهِا، فَلا يَغْضَبْنَّ إِنْ رَأَى وسَمِعَ وَقَابَلَ في السَّاحَةِ ما يُؤْلِمُه.

 

مَنْ يَهُنْ يَسْهُلُ الهَوانُ عَلَيْهِ *** مــا لِــجُرْحٍ بِمَـــــيِّتٍ إِيْــــلامُ

 

ومِما يُجِبُ على الأَبناءِ والبَناتِ أَنْ يُدْرِكُوه، أَنَّ مَقامَ الوَالِدَيْنِ عَظِيْمٌ، وأَنَّ إِظْهارَهُما في وَسائِلِ التَواصُلِ بِصُورَةٍ تُقَلِّلُ مَنْ مَهابَتِهِما، أَو جَعْلُ الوَالِدَيْنِ مُحتَوىً للأَبْناءِ في بَثِّ يَومِيَّاتِهِم، يُظْهِرُونَ فيهِ الوَالدَينِ أَو أَحَدِهِما بِصُورٍ لا تَرْتَقِيْ بِمَقامِهِما في أَعْيُنِ الرَّائِيْن، أَنَّ ذَلِكَ ضَرْبٌ مِنْ أَبشَعِ ضُرُوبِ العُقُوقِ، حَتَى ولَو رَضِيَ الوالدَانِ بذلِك.

 

فالوَلَدُ أَغْيَرُ النَّاس على مَكانَةِ وكَرامَةِ والدَيْه؛ (رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ)[الأحقاف: 15].

 

 

المرفقات

تقدير أولي القدر.doc

تقدير أولي القدر.pdf

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات