عناصر الخطبة
1/المؤمن كثير الخير 2/أوجه الشبه بين النخلة وبين المؤمن 3/عظمة الله تتجلى في مخلوقاته 4/النخل في القرآن الكريم 5/فوائد التمر 6/زكاة التمر والتصدق منه.اقتباس
عظمة الله تتجلى في مخلوقاته، ومن شواهد ذلك أن ترى الماء ينزل من السماء فيسقي أرضاً واحدة، فتنبت أشجارٌ مختلفة لوناً وشكلاً وطلعاً وطعماً، توقن حينها بأنه -سبحانه- الخالق الرزاق. ويبقى النخل مَلِكُ الرياضِ والزروع كما سمّاه الشعراء، ولا عجب ففيه من الخيرات والمنافع، ما لا يكون لغيره....
الخُطْبَة الأُولَى:
الحمد لله....
روَى البُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ عَبْدِاللهِ بنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: كُنَّا عِنْدَ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم-، فَأُتِيَ بجُمَّارٍ "أَيْ: قَلْبُ النَّخْلَةِ"، فَقَالَ: "أَخْبِرُونِي عَنْ شَجَرَةٍ، مَثَلُهَا مَثَلُ المُؤْمِنِ"، فَجَعَلَ القَوْمُ يَذْكُرُونَ شَجَرًا مِنْ شَجَرِ البَوَادِي. قَالَ اِبنُ عُمَرَ: وَأُلْقِيَ فِي نَفْسِي، أَوْ رُوعِيَ، أَنَّهَا النَّخْلَةُ، فَجَعَلْتُ أُرِيدُ أَنْ أَقُولَهَا، فَإِذَا أَسْنَانُ القَوْمِ، فَأَهَابُ أَنْ أَتَكَلَّمَ، فَلَمَّا سَكَتُوا، قالَ رَسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "هي النَّخْلَةُ".
الرجل المؤمن شريف كثير الخير، فإذا شبَّه النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- به شجرة فإنما ذلك لكثرة خيراتها وبركاتها.
وما زال الشراح للحديث يذكرون أوجه الشبه بين النخلة وبين المؤمن، فقال بعضهم: وجه ذلك كَثْرَةُ خَيرِهَا، وَدَوَامُ ظِلِّهَا، وَطِيبُ ثَمَرِهَا، وَوُجُودُهَا عَلَى الدَّوَامِ، فَإِنَّهُ مِنْ حِينِ يَطْلَعُ ثَمَرُهَا لَا يَزَالُ يُؤْكَلُ مِنْهُ حَتَّى يَيْبَسَ، وَبَعْدَ أَنْ يَيْبَسَ يُتَّخَذُ مِنْهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ، مِنْ خَشَبِهَا وَوَرَقِهَا وَأَغْصَانهَا، فَيُسْتَعْمَلُ جُذُوعَاً وَحَطَبَاً وَعِصِيَّاً وَمَحَاضِرَ وَحُصُرَاً وَحِبَالَاً وَأَوَانِي، وَغَيْرَ ذَلِك مِمَّا يُنْتَفعُ بِهِ مِنْ أَجْزَائِهَا، ثُمَّ آَخِرُهَا نَوَاهَا يُنْتَفعُ بِهِ عَلَفَاً لِلْإِبِلِ وَغَيرِهِ، ثُمَّ جَمَالُ نَبَاتِهَا، وَحُسْنُ ثَمَرَتهَا وَهِيَ كُلُّهَا مَنَافِعُ، وَخَيْرٌ وَجَمَالٌ، وَكَذَلِكَ الْمُؤمِنُ خَيْرٌ كُلُّهُ مِنْ كَثْرَةِ طَاعَاتِهِ، وَمَكَارِمِ أَخْلَاقِهِ، وَمُوَاظَبَتِهِ عَلَى صَلَاتِهِ وَصِيَامِهِ وَذِكْرِهِ وَالصَّدَقَةِ وَسَائِر الطَّاعَاتِ".
وقال السعدي: "فكذلك شجرة الإيمان، أصلها ثابت في قلب المؤمن، عِلماً واعتقاداً وفرعها من الكلم الطيّب والعمل الصالح والأخلاق المرضية.. وما تخرجه شجرة الإيمان، ينتفع به المؤمن وينفع غيره".
يا كرام: عظمة الله تتجلى في مخلوقاته، ومن شواهد ذلك أن ترى الماء ينزل من السماء فيسقي أرضاً واحدة، فتنبت أشجارٌ مختلفة لوناً وشكلاً وطلعاً وطعماً، توقن حينها بأنه -سبحانه- الخالق الرزاق.
ويبقى النخل مَلِكُ الرياضِ والزروع كما سمّاه الشعراء، ولا عجب ففيه من الخيرات والمنافع، ما لا يكون لغيره.
ولن يجوع قوم لديهم النخل، يؤكد ذلك قول نبينا -صلى الله عليه وسلم-: "يَا عَائِشَةُ، بَيْتٌ لَا تَمْرَ فِيهِ جِيَاعٌ أَهْلُهُ، يَا عَائِشَةُ، بَيْتٌ لَا تَمْرَ فِيهِ جِيَاعٌ أَهْلُهُ، أَوْ جَاعَ أَهْلُهُ"؛ قَالَهَا مَرَّتَيْنِ، أَوْ ثَلَاثًا.
عباد الله: وفي القرآن ذكر الله النخل في مواضع عدة، فامتن بها على عباده أن رزقها إياهم، (وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ * لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ)[يس: 34- 35].
وقال: (وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)[الأنعام: 99]؛ قال ابن عباس: (وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ) قِصارُ النخل اللّاصقةُ عُذوقُها بالأرض.
وقال: (وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ)[الشعراء: 148]؛ قال عكرمة: هو الرَّطب اللين، وقال أبو العالية: يتهشهش في الفم.
وقال: (وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ)؛ أي: طويلات ثابتات، (لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ)[ق: 10] قال ابن عباس: مُتراكِمٌ بعضه على بعض.
وقال: (وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ)[الأنعام: 141]؛ فمنه الجيد ومنه ما دونه، ولكل نوعٍ من أنواعه طعمٌ مختلف بعض الشيء، برغم أن الشجرة واحدة، إلا أن الأنواع متعددة، وهذا علامة على عظمة ربك -سبحانه-، وإذا كان نخل المدينة -كما قال النووي- مائة وعشرين نوعاً؛ فكيف بغيره من النخل في الأمصار؟!
عباد الله: ومن نعيم الجنة النخل بثمره، قال ربنا (فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ)[الرحمن: 68]؛ قال ابن عباس: "نخل الجنة؛ جذوعها زُمُرّد أخضر، وكرانيفها ذهب أحمر، وسَعفها كسوة لأهل الجنة، منها مُقطّعاتهم وحُللهم، وثمرها أمثال القِلال، أشدّ بياضًا من اللبن، وأحلى من العسل، وأليَن من الزّبْد، وليس لها عَجَمٌ أي نوى".
يا كرام: ورؤية النخل عند انجعافها وموتها تُذكّر المؤمن بعقوبة الله لقوم عادٍ حين أهلكهم الله بالريح (تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ)[القمر: 20]؛ قال مجاهد: وقعت رؤوسهم كأمثال الأخْبِية، وتفرّقت أعناقهم، فشبّهها بأعجاز نخلٍ منقعر.
وقال: (كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ)[الحاقة: 7]؛ قال قتادة: هي أصول النّخل؛ قد بَقِيتْ أصولُها، وذَهبت أعاليها.
عباد الله: وللتمر من الفوائد ما لا يُحصَى كثرةً، وما زال أهل الطبِّ يذكرون هذا، وقبلهم نبينا -صلى الله عليه وسلم-، أخبر أن "مَن تصبَّح بسبع تمرات منه لم يضره سُمّ ولا سِحْر"، وهذا أنفع ما يكون لعجوة المدينة، ويقع لغيرها كذلك من التمر كما قرر العلماء، قال ابن باز: "ويرجى أن ينفع الله بذلك التمر كله، لكن نصّ على المدينة؛ لفضل تمرها والخصوصية فيه، ويرجى أن الله ينفع ببقية التمر إذا تصبح بسبع تمرات".
وكان الشيخ السعدي يرى أن ذلك على سبيل التمثيل، وأن المقصود التمر مطلقاً.
ولا ينسى المؤمن أن من أبواب الإنفاق الصدقة بالتمر ولو قلّ، وفي الصحيح قالت عائشة: جاءتني مسكينة تَحمل ابنتين لها، فأطعمْتُها ثلاثَ تمرات، فأعْطَت كلَّ واحدة منهما تمرةً ورَفَعَت إلى فِيها تمرةً لِتَأكلها، فاسْتطعمَتْها ابنتاها، فشقَّت التمْرةَ التي كانت تريد أن تأكلها بين ابتنيها، فأعجبني شأنُها، فذكَرْتُ الذي صنَعَتْ لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "إنَّ الله قد أَوجب لَها بها الجنةَ، أو أعتقها بها مِن النار".
ومن ذلك التصدق بالتمر في المسجد، مع تحري الطيب منه، والعناية بنظافة المسجد، وقد قال عوف بن مالك: دَخَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- الْمَسْجِدَ، وَبِيَدِهِ عَصًا، وَقَدْ عَلَّقَ رَجُلٌ قَنًا حَشَفًا فَطَعَنَ بِالْعَصَا فِي ذَلِكَ الْقِنْوِ، وَقَالَ: "لَوْ شَاءَ رَبُّ هَذِهِ الصَّدَقَةِ تَصَدَّقَ بِأَطْيَبَ مِنْهَا، وَقَالَ: إِنَّ رَبَّ هَذِهِ الصَّدَقَةِ يَأْكُلُ الْحَشَفَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ".
الخطبة الثانية:
الحمد لله وحده...
عباد الله: ونحن في موسم ثمار النخل، وكان من هدي النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا رأى بواكير الرطب قَالَ: "اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي ثَمَرِنَا، وَبَارِكْ لَنَا فِي مَدِينَتِنَا، وَبَارِكْ لَنَا فِي صَاعِنَا، بَرَكَةً مَعَ بَرَكَةٍ، وَبَارِكْ لَنَا فِي مُدِّنَا. ثُمَّ يَدْعُو أَصْغَرَ من يَحضُره من الولدان، فَيُعْطِيْهِ ذَلِكَ الثَّمَرَ".
ولا ينبغي أن ينسى أصحابُ التمر زكاتها لِيبارك لهم في ذلك، فمن بلغ ثمر نخله في بيت أو مزرعة ستمائة واثنا عشر كيلاً ففيه الزكاة، إذ هو يوازي خمسة أوسق.
ويكون تقديره بما يبلغ هذا إذا زالت رطوبته، قال العثيمين: "يعتبر النصاب بزنة التمر عند يبسه لا بقيمته عند كونه رطباً؛ لأنه قد يكون في حال الرطب يبلغ النصاب، ولكن إذا يبس لا يبلغ النصاب
ويُخرج نصف العشر من هذا المقدار؛ لأنها في بلادنا تسقى بمؤونة وكلفة ففيها نصف العشر. والأولى أن يخرجها من ذات التمر، ويجوز أن يبيع التمر ثم يخرج ثمنه بعد بيعه، أفتى بذلك أهل العلم".
وبعد: فإذا كان هذا وأكثر منه يقال في حق شجرة واحدة، فكم لله في خلقه من أنواع من الأشجار، وأصناف من الثمار، وأشكال من الحيوانات والأطيار، كلها تجعلك توقن بعظمة المليك القهار، فتبارك ربنا وعز شأنه، وتقدس وتعالى سلطانه.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم