عناصر الخطبة
1/الابتلاءات كتبها الله على عباده 2/حصول المجاعة في عهد عمر وما أصاب الناس من شدة 3/حال عمر وسياسته في أيام المجاعة 4/انكشاف الغمة وتباشير الفرج 5/دلالات الإيمان في أخبار مجاعات المسلميناقتباس
فحصل القحْط، ومات الزَّرْع، وقلَّتِ اللقمة، وعُدِم أطايب الأكْل، ونزر الكلام، وكفَّ السائلون عن السؤال، وهزلتِ المواشي، وحصلتْ مسغبةٌ ما عرفتْها العرب في أيَّامها، حتى كان الرجلُ القويُّ يتلوَّى بيْن أهله من شدَّة المخمصة، وانجفل أهلُ البادية إلى المدينة...
الخُطْبَةُ الأُولَى:
الحمد لله الذي لا يبلغُ مِدحَتَه القائلون، ولا يُحصِي نعماءَه العادُّون، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لا رب غيره، ولا إله سواه، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، ومن اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)[آل عمران: 200].
(مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)[التغابن: 11]، ما يصيب الناس من محن ومصائب وابتلاءات ومجاعات لم تكن وليدة يومهم، ولا حديث أمسهم؛ (يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ)[النور: 44].
في السنة الثامنة عشرة من الهجرة أصاب المدينة وما حولها من البوادي مجاعة لم تعرفها العرب في تاريخها، وقعتْ هذه المسغبة وأمير الناس يومئذ عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، وسمي ذلك العام بعام عام الرمادة؛ لأن الرياح كانت تسفو مثل الرماد من القحط، أخرج الطبري عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك قال: "كانت الرمادة جوعاً شديداً أصاب الناس بالمدينة وما حولها، حتى جعلت الوحوش تأوي إلى الإنس، وحتى جعل الرجل يذبح الشاة فيعافها من قبحها، وإنه لمقفر".
وقعتْ هذه المسغبة بعد انقطاع المطر عن أرْض الحِجاز مدةً طويلة، فحصل القحْط، ومات الزَّرْع، وقلَّتِ اللقمة، وعُدِم أطايب الأكْل، ونزر الكلام، وكفَّ السائلون عن السؤال، وهزلتِ المواشي، وحصلتْ مسغبةٌ ما عرفتْها العرب في أيَّامها، حتى كان الرجلُ القويُّ يتلوَّى بيْن أهله من شدَّة المخمصة، وانجفل أهلُ البادية إلى المدينة؛ لعلَّهم يجدون عندَ الخليفة ما يسدُّ حاجتهم، ويُسكت بطونَهم، وكانت أعدادهم تزيد على ستِّين ألفًا، وبقوا أشهرًا عدَّة، ليس لهم طعامٌ إلا ما يُقدَّم لهم من بيت مال المسلمين، قال ابن كثير -رحمه الله-: "فلجأ الناس إلى أمير المؤمنين، فأنفق فيهم من حواصل بيت المال، مما فيه من الأطعمة والأموال حتى أنفذه"، ولم يبقَ في بيت المال قليل ولا كثير.
أمَّا حال عمر -رضي الله عنه- مع تلك المجاعة، فلا تسلْ عن حاله؛ تغيَّرت عليه الدنيا، وأظلمتْ عليه المدينة، طال كمدُه، وتغيَّر لونُه، وذبل جسمُه، فكان لا ينام إلا غِبًّا، ولا يأكل إلا تقوتًا، ولا يلبس إلا خَشِنًا، قَالَ أَنْس -رضي الله عنه-: "تقرقر بطْنُ عُمَر من أكل الزَّيت عام الرَّمَادة، وكان قد حرم على نفسه السَّمْن"، قَالَ: "فنقر بطنه بإصبعه، وَقَالَ: إنه ليس لك عندنا غيره حتى يحيا النّاس".
هذا هو الفاروق، هذا هو ابن الخطَّاب، الذي حَكَم ديارَ الإسلام من مشرقها إلى مغربها، فليأتِ لنا التاريخ، ولتحضر لنا البشرية بمِثْل عمر، عقمتِ النساء أن يلدنَ مثل عمر.
يَا مَنْ يَرَى عُمَرًا تَكْسُوهُ بُرْدَتُهُ *** وَالزَّيْتُ أُدْمٌ لَهُ وَالْكُوخُ مَأْوَاهُ
يَهْتَزُّ كِسْرَى عَلَى كُرْسِيِّهِ فَرَقًا *** مِنْ خَوْفِهِ وَمُلُوكُ الرُّومِ تَخْشَاهُ
كان -رضي الله عنه- يؤثِر بطعامه الآخرين على نفسه، أمَرَ يومًا بنَحْر جزور وتوزيع لحمِه على الناس، وعندما جلس عمرُ لغدائه، وجد سنامَ الجذور وكبدَه على مائدته، فسأل: "من أين هذا؟!"، فقالوا: مِن الجزور الذي ذُبِح اليوم، فأزاحه بيده، وقال: "بئس الوالي أنا؛ إن طعمتُ طيبَها، وتركتُ للناس كراديسَها".
قِفْ أَيُّهَا التَّارِيخُ سَجِّلْ صَفْحَةً *** غَرَّاءَ تَنْطِقُ بِالخُلُودِ الكَامِلِ
حَرِّكْ بِسِيرَتِهِ الْقُلُوبَ فَقَدْ قَسَتْ *** وَعَدَتْ بِقَسْوَتِهَا كَصُمِّ جَنَادِلِ
قال أسلم مولى عمر: لما كان عام الرَمَادَة جاءت وفود العرب من كل ناحية، فقدموا المدينة فأمر عمر رجالاً يقومون بمصالحهم، فسمعته يقول ليلةً من الليالي: "أحصوا من يتعشى عندنا"، فأحصوهم في القابلة فوجدوهم سبعة آلاف رجل.
ترَك عمر أخْذ الزكاة من الناس ذلك العام، وأنْفق كلَّ ما في بيت المال من الطعام والكساء، فألزم نفسه ألا يأكل سمينًا، فكان إدامه الخل بالزيت حتى اسودَّ لونه، وتغير جسمه، وخُشي عليه -رضي الله عنه وأرضاه-.
قال أبو هريرة -رضي الله عنه-: "يرحم الله عمر، لقد رأيته عام الرمادة، وإنه ليحمل على ظهره جرابين، وعكة زيت في يده"، قال: "فأخذت أعقبه، فحملناه حتى انتهينا إلى نحو من عشرين بيتاً، فرأيت عمر طرح رداءه، ثم اتزر فما زال يطبخ لهم حتى شبعوا، وكان يختلف إليهم وإلى غيرهم حتى رفع الله ذلك".
قال الحافظ ابن كثير -رحمه الله-: "عسَّ عمر المدينة ذات ليلة عام الرمادة، فلم يجد أحداً يضحك ولا يتحدث، ولم ير سائلاً يسأل، فسأل، فقيل له: يا أمير المؤمنين، إن السؤَّالَ سألوا فلم يعطوا، فقطعوا السؤال، والناس في هم وضيق؛ فهم لا يتحدثون ولا يضحكون".
قال ابن كثير: فلما أصبح عمر كتب إلى أمراء الأمصار يستغيثهم: الغوث الغوث، كتب إلى أبي موسى بالبصرة، وإلى عمرو بن العاص بمصر، وإلى معاوية بالشام: "واغوثاه واغوثاه لأمة محمد"، فكتب إليه عمرو بن العاص: "أتاك الغوث -يا أمير المؤمنين-؛ لأبعثنَّ إليك بعِيرٍ أولُها عندَك، وآخرُها عندي".
قال ابن الأثير في تاريخه: فنادى عمر في الناس للاستسقاء، وَخَرَجَ مَعَهُ الْعَبَّاسُ مَاشِيًا، فَخَطَبَ عمر وَأَوْجَزَ، وَصَلَّى ثُمَّ جَثَا لِرُكْبَتَيْهِ وَقَالَ: "اللَّهُمَّ عَجَزَتْ عَنَّا أَنْصَارُنَا، وَعَجَزَ عَنَّا حَوْلُنَا وَقُوَّتُنَا، وَعَجَزَتْ عَنَّا أَنْفُسُنَا، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِكَ، اللَّهُمَّ فَاسْقِنَا وَأَحْيِ الْعِبَادَ وَالْبِلَادَ"، وَأَخَذَ بِيَدِ الْعَبَّاسِ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ وَإِنَّ دُمُوعَ الْعَبَّاسِ لَتَتَحَادَرُ عَلَى لِحْيَتِهِ، فقال: "اللهم إنا كنَّا نستسقي إليك بنبيِّنا فتسقينا، وإنا نتوسَّل إليك بعمِّ نبينا فاسْقنا"، وكان العبَّاس قد طال عمرُه، ورقَّ عظمُه، فجعلت عيناه تذرفان، وهو يقول: "اللهمَّ أنت الراعي فلا تُهملِ الضالَّة، ولا تَدعِ الكسير بدار مضيعة، فقد صرَخ الصغير، ورقَّ الكبير، وارتفعتِ الشَّكْوى، وأنت تعلم السِّرَّ وأخفى، فأغْنِنا بغناك"، قال فما برحوا مكانهم حتى مطروا، فقدم أعراب، فقالوا: "يا أمير المؤمنين، بينا نحن في وادينا إذ أظلتنا غمامة، فسمعنا منها صوتاً: أتاك الغوث أبا حفص، أتاك الغوث أبا حفص".
فجعل عمر -رضي الله عنه- يُرسِل إلى الناس مؤنةَ شهر ممَّا يصله من الأمصار، ثم ترحل الناس عن المدينة، قَالَ الإمام الشَّافِعِيُّ -رحمه الله-: "أَخْبَرَنَا الثِّقَةُ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ أن عمر بن الخطاب أَنْفَقَ عَلَى أَهْلِ الرَّمَادَةِ، حَتَّى وَقَعَ مَطَرٌ فَتَرَحَّلُوا، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ عُمَرُ، فَنَظَرَ إِلَيْهِمْ وَهُمْ يَتَرَحَّلُونَ بِظَعَائِنِهِمْ، فَدَمَعَتْ عَيْنَاهُ، فَقَالَ رَجُلٌ: أَشْهَدُ أَنَّهَا انْحَسَرَتْ عَنْكَ، وَلَسْتَ بِابْنِ أَمَةٍ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: وَيْلَكَ ذَلِكَ لَوْ كُنْتُ أَنْفَقْتُ عَلَيْهِمْ مِنْ مَالِي أَوْ مِنْ مَالِ الْخَطَّابِ؛ إِنَّمَا أَنْفَقْتُ عَلَيْهِمْ مِنْ مَالِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-".
إن جاع في شدة قومٌ شركتهم *** في الجوع أو تنجلي عنهم غواشيها
جوع الخليفة والدنيا بقبضته *** في الزهد منزلة سبحان موليها
فمن يباري أبا حفص وسيرته *** أو من يحاول للفاروق تشبيها
أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم وللمسلمين، فاستغفروه إن ربي رحيم ودود.
الخطبة الثانية:
الحمدُ لله وكفى، والصلاة والسلام على عبده المصطَفى، وعلى آله وصحبه ومَن اجتبى.
أما بعد: الحديث عن مجاعات المسلمين ليس تمضية للوقت أو رواية أخبار، بل هو دين وعقيدة، وولاء وإخاء، قال النُّعْمَانُ بْنِ بَشِيرٍ: سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ، وَتَرَاحُمِهِمْ، وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ، إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى"(متفق عليه).
(وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ)[التوبة: 71]، ومن لم يحمل همهم فلن يطعمهم لو استطاع، وحمل هم المسلمين دليل على الإيمان، وبه يكفر الله به السيئات، قال -صلى الله عليه وسلم-: "مَا يُصِيبُ المُسْلِمَ مِنْ هَمٍّ وَلاَ حُزْنٍ، وَلاَ أَذًى وَلاَ غَمٍّ؛ إِلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ"(أخرجه البخاري).
ولما قدم على النبي -صلى الله عليه وسلم- قَوْمٌ حُفَاةٌ عُرَاةٌ مُجْتَابِي النِّمَارِ، فَتَمَعَّرَ وَجْهُ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-؛ لِمَا رَأَى بِهِمْ مِنَ الْفَاقَةِ، فَدَخَلَ ثُمَّ خَرَجَ، فَأَمَرَ بِلَالًا فَأَذَّنَ وَأَقَامَ، فَصَلَّى ثُمَّ خَطَبَ... الحديث أخرجه مسلم.
وكلما زاد إيمان العبد ظهر ولائه للمسلمين وهمه لما يصيبهم، قال أسلم مولى عمر بن الخطاب: "كنَّا نقول: لو لم يرفعِ الله -تعالى- المَحْل عام الرمادة، لظننا أنَّ عمر يموت همًّا بأمر المسلمين"، فأي إيمان وأخوة دين لمن إذا سلمت له معيشته، ولم تمسه الضراء، لم يبالِ بما يصيب غيره؟!.
ولقد علمنا عمرُ صِدْقَ اللجوء إلى الله -تعالى- في الملمَّات، وشكاية الحال إليه في الأزمات،
ذكر ابنُ سعد في (الطبقات) عن سليمان بن يسار قال: خطب عمرُ الناسَ في زمن الرمادة، فقال: "يا أيُّها الناس، اتَّقوا الله في أنفسكم، وفيما غاب عنِ الناس من أمرِكم"، إلى أن قال: "هلمُّوا فلندعُ الله أن يصلحَ قلوبنا، وأن يرحمَنا، وأن يرفعَ عنا المَحْل"، قال الراوي: فرُئي عمر -رضي الله عنه- يومئذ رافعًا يديه يدعو، والناس يدعون، حتى بكَى، وأبْكى الناس مليًّا.
قال عبد الله بن عمر: أحدث أبي في عام الرمادة أمراً ما كان يفعله، لقد كان يصلي بالناس العشاء، ثم يخرج حتى يدخل بيته، فلا يزال يصلي حتى يكون آخر الليل، ثم يخرج فيأتي أنقاب المدينة، فيطوف عليها، وإني لأسمعه ليلة في السحر وهو يقول: "اللهم لا تجعل هلاك أمة محمد على يدي".
فلنتقِ الله في أنفسنا وصلاتنا ورعاية من تحت أيدينا، ولنشكر ربنا على خيره ورزقه المدرار علينا؛ (كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ)[سبأ: 15]، فليس مع الناس صك ضمانات لبقاء النعم بأيديهم، والنعم تزول حينما يزول الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويحل مكانه المجاهرة بالمعاصي والاستعلان بالمنكرات؛ (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ)[الأعراف: 96].
اللهم ارفع الغمة عن هذه الأمة، اللهم أطعم أهل غزة من جوع وآمنهم من خوف، اللهم أصلح الراعي والرعية، اللهم آمنا في دورنا، وأصلح ولاة أمورنا.
اللهم صل على نبينا محمد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم