البناء والعمران بين الحاجة والترف
د مراد باخريصة
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي عمّر الكون بحكمته، وسنّ للناس سنن العمران، أحمده سبحانه وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله النبيّ العدنان، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن سار على هديه في سائر الأمصار والأزمان.
أما بعد:
فيا أيها الناس، أوصيكم ونفسي المقصّرة بتقوى الله عز وجل، فهي وصية الله للأوّلين والآخرين:
﴿ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ ﴾ [النساء: 131].
عباد الله: نتحدث اليوم عن موضوعٍ يمسّ حياة الناس في كل زمان ومكان، إنه البناء والعمران، نتحدث عنه لا من منظورٍ عمراني فحسب، بل من نور النبوة وهدي السماء.
لقد امتنّ الله سبحانه وتعالى على عباده بالسكن والمأوى، وجعل البيوت نعمةً عظيمة تستحق أن تُشكر، ولم يجعلها وسيلة للتفاخر أو أبنية للتباهي، يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَنًا ﴾ [النحل: 80]، وقال سبحانه في وصف نعمته على بني آدم: ﴿ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ ﴾ [الأعراف: 10].
ووردت في السنة النبوية أحاديث عدة تتحدث عن البناء، ليس بوصفه حاجة فطرية فحسب، بل أيضًا باعتباره سلوكًا يعكس القيم، ويُظهر توجّه الإنسان نحو الدنيا أو الآخرة.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ما لي وللدنيا؟ ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظلّ تحت شجرة، ثم راح وتركها» [رواه الترمذي]، ويقول عليه الصلاة والسلام: «كل بناءٍ يبنيه العبد، فسيكون وبالًا عليه يوم القيامة، إلا ما لا بدّ منه» [رواه البخاري في الأدب المفرد وصححه الألباني].
أيها الناس: إن هذه الأحاديث لا تمنع البناء مطلقًا، وإنما تُحذّر من التوسع فيه دون حاجة، ومن التفاخر والمباهاة فيه، فالبناء المبالغ فيه علامة على الترف والإعراض عن الآخرة، وهذا ما نشاهده اليوم في واقعنا المعاصر.
عمارات شاهقة، وقصور فارهة، ومجمعات تجارية مترفة، بينما فقراء المسلمين يسكنون في الأكواخ والخيام!
ومبانٍ عالية شُيّدت بآلاف الملايين، ثم تُترك خاوية على عروشها.
ومشاريع سكنية مبهرة تُخصَّص لفئات الأغنياء فقط، بينما الفقراء يتزاحمون في الأحياء العشوائية أو يقبعون في بيوت الصفيح.
بيوت يُنفق عليها بسخاء في الرخام والديكور، ولا يهمّ أصحابها إلا المظاهر فقط.
كم من أبٍ بنى بيتًا ضخمًا وترك أولاده في دوامة الديون بعد موته؟
وكم من مشاريع عملاقة وعمائر فاخرة تُنشأ دون تخطيط وتنسيق جيد، فتسبِّب مشاكل بيئية واختناقات مرورية وتضييقًا للشوارع والطرقات؟
أليس من التناقض أن يُصرف على الترف في البناء مئات الملايين، بينما المشاريع الخيرية لا تجد تمويلاً؟!
أليس الأجدر أن نُطعم جائعًا، أو نُسكِّن أرملة، أو نرعى يتيمًا، بدلًا من سباكة الرخام والمسابح الفارهة التي لا حاجة لها؟
لقد حدّد النبي صلى الله عليه وسلم الضوابط الشرعية للبناء، وجعل منها: أن يكون للبناء حاجة حقيقية: سكنًا أو معيشة أو مصلحة معتبرة، حتى لا نكون ممن قال الله فيهم: ﴿وَلَا تُسْرِفُوا ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ﴾ [الأنعام: 141].
وألا يترتب عليه أذى للناس، فلا يُضيّق الطريق، ولا يحجب عن جيرانه الضوء أو الهواء، فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يمنعنّ أحدكم جاره أن يضع خشبة على جداره» ثم قال أبو هريرة: "ما لي أراكم عنها معرضين؟ والله لأرمينّ بها بين أكتافكم" [متفق عليه].
ومن شروط البناء في الإسلام: ألا يكون هدفه الرياء والتفاخر، فإن هذا من معائب الزمان وعلامات الساعة، كما قال صلى الله عليه وسلم: «لا تقوم الساعة حتى يتطاول الناس في البنيان» [متفق عليه]، فهذا الحديث من أعلام نبوّته، يصف فيه حال الناس في آخر الزمان، حين يتحول البناء من حاجة إلى مظهر من مظاهر الكبر والمباهاة.
وفي ضوء واقعنا، فإن من واجبنا اليوم: أن نعيد النظر في ثقافتنا العمرانية، وأن نُقدّم الحاجة على الزينة، والنفع على المظهر، حتى لا تستهوينا المظاهر وأشكال التفاخر، فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا رأيتَ شُحًّا مطاعًا، وهوًى متّبعًا، وإعجاب كل ذي رأيٍ برأيه، فعليك بخاصة نفسك» [رواه أبو داود].
وأن نبني بيوتنا بما يُرضي الله، لا بما يُرضي الناس، كما لا ننسى أن نخصص جزءًا من مال البناء للصدقة والإحسان، فإنه: «ليس بمؤمنٍ من بات شبعان وجارُه إلى جنبِه جائعٌ وهو يعلم» كما أخبر بذلك الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم.
قلت ما سمعتم ..
الخطبة الثانية:
يا أمة محمد، والله ما تقدّمت أمتنا إلا حين جعلت العدل والرحمة والإحسان أساس عمرانها، وما تخلّفت إلا حين صار البنيان يعلو، والإنسان يُهمَل.
فاتقوا الله عباد الله، وأعيدوا التوازن إلى عمرانكم، فلا يُعقل أن تُبنى مساجد فخمة وتُترك بيوت الفقراء مهدّمة، ولا أن نعيش في أبراج من زجاج وقلوبنا من حجر!
أيها الناس: إن البيت الحقيقي هو ذاك الذي تُقام فيه الصلاة، وتُقرأ فيه سورة البقرة، ويُكرم فيه الضيف، وتُرحم فيه الأرملة واليتيم.
البيت الحقيقي، عباد الله، ليس الذي يكون سقفه من رخام، أو تلمع جدرانه بالمرايات، أو تزينه التحف والمفروشات، وإنما البيت الحقيقي هو ذاك الذي يُذكر فيه الله، وتُقام فيه الصلاة، وتُعمَل فيه السنن والشعائر، وتُصان فيه القلوب.
البيت الحقيقي هو الذي إذا دخلته شعرت بالسكينة، وإذا جلست فيه ذكرتَ اسم الله، وإذا خرجت منه بقي عامرًا بالخير والبركة.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم، ولا تتخذوها قبورًا»؛ أي لا تجعلوا بيوتكم موحشة من ذكر الله، بعيدة عن إقامة العبادات والصلوات فيها.
ويقول عليه الصلاة والسلام «إن الشيطان ينفر من البيت الذي تُقرأ فيه سورة البقرة» [رواه مسلم].
فكم من بيتٍ اليوم يُقرأ فيه كل شيء إلا القرآن؟ وكم من منزلٍ يضجّ بالأغاني والمسلسلات ويخلو من صوت التسبيح والتهليل والتكبير؟
وكم من غرفة خُصصت للتلفاز، ولم تُوضع فيه سجادة صغيرة للصلاة؟!
يا عباد الله، البيت الذي تُقرأ فيه سورة البقرة بيتٌ طاردٌ للشيطان، جالبٌ للطمأنينة، حافظٌ للنفوس، مانعٌ للحسد والسحر والشرور.
فما أحوجنا إلى هذا النوع من البيوت في زمنٍ كثر فيه القلق والاكتئاب وتفكك الأسر!
يا من بنيت بيتك بالطوب والحجر، هل بنيته أيضًا بالتقوى والذكر؟
هل بنيته على أساسٍ من الرضا والسكينة، أم على صراعات أسرية وصوت صراخٍ دائمٍ بين الجدران؟
هل جعلت لأبنائك فيه مجلسًا للقرآن؟ أم جعلته متحفًا للمظاهر والتكلّف والخسائر التي لا تُجدي عن أصحابها شيئًا؟
إن البيت الحقيقي هو ذاك الذي تنمو فيه القلوب على الإيمان، وتُربى فيه الألسن على الذكر، وتنشأ فيه الأجيال على تعظيم الله جلّ جلاله وعزّ كماله.
ذلك هو البيت الذي إذا غادرته، لم يغادرك الإيمان، وإذا عدتَ إليه، شعرت بالأنس والسعادة لا بالضيق والضجر.
اللهم اجعل بيوتنا عامرةً بالإيمان، عامرةً بالأمان، واجعل بناءنا بركة لا حسرة، وسترًا لا فتنة.
اللهم أصلح فساد قلوبنا، واجعل بناءنا شاهدًا لنا لا علينا، وأعنا على إعمار الأرض بما يُرضيك عنا، لا بما يُبعدنا عنك.
وصلوا وسلّموا على ...
المرفقات
1752519949_البناء والعمران بين الحاجة والترف.doc