الرحمة يا أصحاب العقار
هلال الهاجري
إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)، أما بعد:
لَو قِيلَ لَكَ: صِفْ لَنَا المُجتَمَعَ الإسلاميَّ الأَصِيلَ، بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ دُونَ إسهَابٍ ولا تَفصِيلٍ، فَمَا هِيَ الكَلَمَةُ التِي يُمكِنُ أَن تَكونَ كَافِيَّةً، ولِمحَاسِنِ دِينِ أَفرَادِ هَذَا المُجتَمَعِ وَافِيَّةً، إنَّهَا (الرَّحمَةُ) السِّمَةُ البَارزةُ فِي المُجتَمَعَاتِ الإسلاميَّةِ، وَدَليلُ ذَلِكَ مَا وَصَفَ اللهُ تَعَالى بِهِ مُجتَمَعَ خَيرِ البَريَّةِ: (مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ).
وإليكُم هَذا المِثالُ: عِندَمَا جَاءَ المُهَاجِرونَ الفُقَراءُ إلى المَدِينةِ أَفراداً وجَمَاعَاتٍ، عُزَّابَّاً وعَائلاتٍ، "آخَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَبَيْنَ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ، وَكَانَ كَثِيرَ المَالِ، فَقَالَ سَعْدٌ: قَدْ عَلِمَتِ الأَنْصَارُ أَنِّي مِنْ أَكْثَرِهَا مَالًا، سَأَقْسِمُ مَالِي بَيْنِي وَبَيْنَكَ شَطْرَيْنِ، وَلِي امْرَأَتَانِ فَانْظُرْ أَعْجَبَهُمَا إِلَيْكَ فَأُطَلِّقُهَا، حَتَّى إِذَا حَلَّتْ تَزَوَّجْتَهَا، فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِي أَهْلِكَ وَمَالِكَ، لَا حَاجَةَ لِي فِي ذَلِكَ"، هَكَذَا كَانَ التَّراحُمُ بَينَ المُسلِمِينَ، فَمَدَحَهُم اللهُ تَعَالى فِي كِتَابِه المُبينَ، فَقَالَ سُبحَانَهُ: (وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).
مَنْ يَرحَمُ الخَلقَ فَالرَّحمَنُ يَرحَمُهُ *** وَيَكشِفُ اللهُ عَنهُ الضُّرَّ وَالبَاسَا
فَفِي صَحِيحِ البُخَاريِّ جَاءَ مُتَّصِلاً *** لا يَرحَمُ اللهُ مَنْ لا يَرحَمُ النَّاسَا
ولَكِنَّ المُؤسِفَ أَنَّ الكَثيرَ اليَومَ يَشتَكِي غِيَابَ الرَّحمَةِ بَينَ المُسلِمِينَ، ويَستَغِيثُ مِن ذَلِكَ ذَوو الدَّخلِ المَحدُودِ والفُقَرَاءُ والمَسَاكِينُ، مِن غَلاءِ أَسعَارِ التُّجَّارِ، وَمِن جَشَعِ أَصحَابِ العَقَارِ، فَيَذهِبُ مَا يَجمَعُونَهُ بِشِقِّ الأَنفُسِ عَلى مَرِّ اللَّيلِ والنَّهَارِ، فِي آخِرِ الشَّهرِ أو السَّنَّةِ عَلى دَفتَرِ تَاجِرٍ أو سَدَادِ إيجَارٍ، فلا تَبقَى بَقِيَّةٌ لِصُروفِ الدَّهرِ والمَصائبِ النَّازِلاتِ، ولا يَستَطِيعُونَ ادِّخَارَ مَا يَبنُونَ بِهِ مُستَقبَلَ الأَبنَاءِ والبَنَاتِ، فَهُم بَينَ حِيرَةٍ وَضِيقٍ وَهَمٍّ، وبَينَ شَكوَى وبُؤسٍ وَغَمٍّ، يَبحَثُونَ عن رَحمَةِ الجَسدِ الواحدِ التي جَاءَ بِهَا الحَديثُ: (مَثَلُ المؤمِنينَ في تَوادِّهم وتَرَاحُمِهِم وتعاطُفِهِمْ، مَثَلُ الجَسَدِ إذا اشتَكَى مِنْهُ عُضوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الجَسَدِ بالسَّهَرِ والْحُمَّى).
فَيَا أَصحَابَ العَقَارَاتِ، لَيسَ الخَيرُ فِي مُضَاعَفَةِ الأَربَاحِ وزِيَادَةِ الإيجَارَاتِ، فَكَم مِن مَكَاسِبَ قَد أَتتَ على أَصحَابِهَا بِالوَيلاتِ، وَكَم مِن أَموالٍ قَد صَرَفَها صَاحِبُهَا فِي عِلاجَاتٍ، بَل الخَيرُ فِي مُرَاعَاةِ النَّاسِ وأَحوالِهِم، وعَدَمِ التَّطَلُّعِ إلى استِئصَالِ أَموالِهِم، فَمَن أَرادَ المَكَاسِبَ والنَّفعَ والحَسَنَاتِ، أَخَذَ القَليلَ بِسَخَاءِ نَفسٍ فَفِيهِ البَرَكَاتُ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلِيهِ وَسَلَّمَ: (إنَّ هذا المَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ، فمَن أَخَذَهُ بسَخَاوَةِ نَفْسٍ بُورِكَ له فِيهِ، ومَن أَخَذَهُ بإشْرَافِ نَفْسٍ لَمْ يُبَارَكْ له فِيهِ، كَالَّذِي يَأْكُلُ ولَا يَشْبَعُ)، فَإذا بَاركَ اللهُ فِي القَليلِ، رَأيتَ العَجَبَ والمُستَحيلَ.
ولا يَنبَغِي أَن نَنسى الرَّحمَةَ بَينَنَا والإحسَانَ، ولا العَلاقَةَ والرَّابِطَةَ القَويَّةَ بَينَ أَهلِ الإيمانِ، فَقَد أَقسَمَ نبيُّنَا عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ فَقَالَ: (وَالذي نَفسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لا يُؤْمِنُ أَحدُكُم حَتى يُحِبَّ لِأَخِيهِ ما يُحِبُّ لنفسِهِ من الخيرِ)، فَانظُرْ إلى مَعَامَلَتِكَ لإخوَانِكَ المُسلِمِينَ، هَل تَرضَاهَا لِنفسِكَ لو كُنتَ مِنَ المُستأجِرينَ، كَانَ لِمُحمَّدِ بنِ سِيرينَ عَقَاراتٍ ولا يُؤجِرُهَا إلا لأهلِ الذِّمَّةِ مِنَ اليَهُودِ والنَّصَارى، فَسُئلَ عَنِ السَّبَبِ، فَقَالَ: إذَا جَاءَ رَأسُ الشَّهرِ ارتَاعَ المُستَأجِرُ مِن دَفعِ الإيجَارِ، وَأَنَا أَكرَهُ أَنْ أُرَوِّع َمُسلِمَاً، لا إلَهَ إلا اللهُ، فَكيفَ بِمَن يُروِّعُ المُسلِمينَ بِزيَادَةِ الإيجَارِ، وبالتَّهديدِ بالطَّردِ وَقَسوَةِ الإنذارِ؟.
إِنْ كُنتَ لَا تَرحَمُ المِسكِينَ إِنْ عَدِمَا *** وَلَا الفَقِيرَ إِذَا يَشكُو لَكَ العَدَمَا
فَكَيفَ تَرجُو مِنَ الرَّحمَنِ رَحمَتَهُ *** وَإِنَّمَا يَرحَمُ الرَّحمَنُ مَنْ رَحِمَا
أقولُ قولي هذا وأستغفرُ اللهَ العظيمَ لي ولكم ولسائرِ المسلمينَ إنه هو الغفورُ الرحيمُ.
الخطبة الثانية:
الحَمدُ للهِ ذِي الجُودِ والسَّخَاءِ، أَمَرَ بِالإحسانِ وَالبَذلِ وَالعَطَاءِ، وَوَعَدَ بالخَيرِ والزِّيَادَةِ والنَّمَاءِ، يُحِبُّ مِن عِبَادِهِ المحسنينَ، ويَجْزِي بِفَضلهِ المتصدقينَ، ويُخْلِفُ النَّفقةَ عَلى المُنفقِينَ، وَأَشْهَدُ ألَّا إِلَهَ إِلّا اللهُ، وَحدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أنّ محمدًا عَبدهُ ورَسولُه، صَلَّى اللهُ عَليهِ وآلِهِ وَصَحبِهِ وَسَلَّمَ تَسليمًا كَثيرًا، أَمَّا بَعدُ:
يَتَعجَّبُ الإنسَانُ عِندَمَا يَقرَأُ فِي تَاريخِ المُسلِمينَ عَنِ الأَوقَافِ، وكَيفَ كَانت تَخدِمُ المُحتَاجِينَ بِسترٍ وَعَفَافٍ، فَالصَّحَابَةُ رَضِيَ اللهُ عَنهُم أَوقَفُوا المَسَاكِنَ والعُيونَ، والخُلَفَاءُ وأَهلُ المَالِ والسَّعَةِ والصَّالِحُونَ، وَكَانَ المُجتَمَعُ يَتَراحَمُ في جَميعِ الطَّبَقَاتِ، وتَمتَدُ يَدُ الغَنيِّ إلى الفُقَراءِ بِالرَّحَمَاتِ، ونَحنُ لا نَطلِبُ مِن أَصحَابِ العَقَارِ أَن يُوقِفُوا بَعضَ عَقَارَاتِهم، ولَو فَعلُوهُ لَكانَ خَيراً لَهُم فِي دُنيَاهُم وآخِرَتِهم، ولَكنْ نَقُولُ قَليلٌ مِن الرَّحمَةِ أيَّهَا الأَغنِياءُ، وارْحَمُوا مَنْ فِي الأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ.
يَا أَصحَابَ العَقَارِ، هَل تَعلَمُونَ أَنَّ رَبَّ العَالَمينَ، قَد خَصَّكُم بِعِباداتٍ جَليلةٍ مَعَ المُستأجِرين؟، تَستَطِيعُونَ أَن تَشتَروا بِهَا عَفوَ اللهِ ومَغفِرَتَهُ يَومَ يُحشَرُ الأَولونَ والآخِرِونَ، وَذَلِكَ بالتَّجَاوزِ عَنِ المُعسِرِ أو إمهَالِهِ أو إسقَاطِ بَعضِ الدُّيونِ، فعَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (حُوسِبَ رَجُلٌ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَلَمْ يُوجَدْ لَهُ مِنْ الْخَيْرِ شَيْءٌ، إِلَّا أَنَّهُ كَانَ يُخَالِطُ النَّاسَ، وَكَانَ مُوسِرًا، فَكَانَ يَأْمُرُ غِلْمَانَهُ أَنْ يَتَجَاوَزُوا عَنْ الْمُعْسِرِ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالى: نَحْنُ أَحَقُّ بِذَلِكَ مِنْكَ، تَجَاوَزُوا عَنْهُ)، اللهُ أَكبَرُ .. مُعسِرٌ تَتَجَاوَزُ عَنهُ اليَومَ رَحمةً وإحسَانَاً، فَتَنالُ مَغفِرَةَ اللهِ يَومَ القِيَامَةِ ورِضوَاناً، بَل وَتَكونُ تَحتَ عَرشِ الرَّحمَنِ في ظِلٍّ ظَليلٍ، يَومَ تَدنُو الشَّمسُ مِنَ الخَلائقِ قَدرَ مِيلٍ، كَما جَاءَ فِي الحَديثِ: (مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا، أَوْ وَضَعَ لَهُ، أَظَلَّهُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تَحْتَ ظِلِّ عَرْشِهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ)، فَأَينَ نَحنٌ عَن هَذِهِ الأُجورِ والفَضائلِ، أَو قَد أَلهَانا نَعيمُ الدُّنيا الزَّائلُ.
اللَّهُم َّاكْفِنَا بِحَلالِكَ عَنْ حَرَامِكَ، وَأَغْنِنَا بِفَضْلِكَ عَمَّنْ سِوَاكَ، اللَّهُمَّ إنا نَسألُكَ عَيْشاً قَارَّاً، وَرِزقَاً دَارَّاً، وَعَمَلاً بَارَّاً، اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْألُكَ خَشْيَتَكَ فِي الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، وَكَلِمَةَ الْحَقِّ فِي الْغَضبِ وَالرِّضَا، وَنسْألُكَ الْقَصدَ فِي الْفَقْرِ وَالْغِنَى، وَنسْألُكَ نَعيماً لا يَنْفَدُ، وَقُرًّةَ عَيْنٍ لا تَنْقَطِعُ، وَنسْألُكَ الرِّضَا بَعْدَ الْقَضَاءِ، وَنسْألُكَ بَرْدَ الْعَيْشِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَنسْألُكَ لَذَّةَ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِكَ، وَنسْألُكَ الشَّوْقَ إِلَى لِقَائِكَ فِي غيْرِ ضَرَّاءَ مُضِرَّةً، وَلا فِتْنَةٍ مُضِلَّةٍ، اللَّهُمَّ زَيِّنَّا بِزِينَةِ الإِيمَانِ، وَاجْعَلْنَا هُدَاةً مُهْتَدِينَ، اللهمَّ آمِنَّا في أوطانِنا، وأصلِحْ أئمَّتَنا وولاةَ أُمورِنا، واجعلِ اللهمَّ ولايتَنا فيمن خَافَكَ واتَّقاكَ، واتَّبَع رِضاكَ، اللهمَّ أيِّد بالحقِّ والتَّوفيقِ والتَّسديدِ إمامَنا ووليَّ أَمرِنا، اللهمَّ احفظنا من شَرِّ الأشرارِ، وكَيدِ الفُجَّارِ، وشرِّ طوارِقِ الليلِ والنهارِ يا ربَّ العَالمينَ.
المرفقات
1759944056_الرحمة يا أصحاب العقار.docx
1759944064_الرحمة يا أصحاب العقار.pdf