الفردوس

الخطبة الأولى

الحمد لله الكبيرِ المُتعال، ربِّ العزة والجلال، أحمدُه تعالى حمدًا طيبًا مُباركًا فيه، كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، عظُم حلمُه، وتمَّ حكمُه، وأحاطَ بكلِّ شيءٍ علمُه، ، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه، كريمُ السجايا شريفُ الخِصال، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آلِه وصحبِه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد: ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله ... )

عباد الله: الأهدافُ والطموحاتُ هَاجِسٌ لَا يَنْفَكُّ عَنِ النَّفْسِ الْبَشَرِيَّةِ، فَمَا مِنْ عَبْدٍ إِلَّا وَقَدْ طَافَ فِي خَيَالِهِ أَلْوَانٌ مِنَ الأهداف والأماني المتنوعة، بيد أن هناك أمنيةٌ مِنْ أَعْظَمِ الْأَمَانِي ، وهدف تَتُوقُ لَهَ الْأَرْوَاحُ، وَتَطِيرُ لَهَ الْقُلُوبُ. ذلك الهدف يصْغُرُ دُونَهَ كُلُّ هدف، وغاية تَتَضَاءَلُ بَعْدَهَا كُلُّ غَايَةٍ؛ أتدرون ما هو ؟

أرعوني أسماعكم لهذا الحديث العظيم ففيه تكمن الأمنيةُ الغالية والهدفُ السامي، قال نبيكم ﷺ: (إِنَّ فِي الجَنَّةِ مِائَةَ دَرَجَةٍ، أَعَدَّهَا اللَّهُ لِلْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِهِ، كُلُّ دَرَجَتَيْنِ، مَا بَيْنَهُمَا كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، فَإِذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ؛ فَسَلُوهُ الفِرْدَوْسَ، فَإِنَّهُ أَوْسَطُ الجَنَّةِ، وَأَعْلَى الجَنَّةِ، وَفَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ، وَمِنْهُ تَفَجَّرُ أَنْهَارُ الجَنَّة).

نعم إنه الفردوسُ الأعلى من الجنة. فيا له من أمنية ما أعظمَها، ومن منزلة ما أرفعها..

من منّا وضعه هدفه في الحياة أن ينال الفردوس الأعلى من الجنة ومرافقة النبي ﷺ فيه، ثم سعى لهذا الهدف بالأعمال الصالحة وسابق في مراضي الله، فالْأَمَانِي وَحْدَهَا بِلَا عَمَلٍ إِفْلَاسٌ، وَمَا نَيْلُ الْمَطَالِبِ بِالتَّمَنِّيِ. تأمّل! سنواتٌ قليلة من عمرك، تشتري بها الفردوس الأعلى، هل هناك صفقةٌ أربح من هذه الصفقة؟ وتجارة رابحة كهذه التجارة مع الله ؟ لك أن تتخيل أنك تعيشُ حياتك الأبديةَ في الفردوس الأعلى مع النبيين، وصفوةِ بني آدم، ووالله إن أعقل بني آدم من سعى لذلك وشمّر إليه، قال الشافعي: ( لو أوصى رجل لأعقل بني آدم، لصُرف للزهاد في الدنيا ) نعم ، فهل هناك أعقلُ وأذكى ممن سعى لعمارة مستقبله الأبدي، واجتهد أيام قلائل لراحة ونعيم الأبد؟ وهل هناك أحمق ممن ضيع الآخرة الخطيرة وغامر في عمره ومن وراءه الحساب وجهنم لأجل الدنيا الفانية ومتعها؟  إن أعلى الهمم والله تلك الهمة التي سعت إلى الفردوس الأعلى ورؤية وجه الله الكريم، هذه الهمّة وهذا الهدف التي قلّ أن ينبه عليها أحد، ولا يحدثُك عنه كثيرٌ ممن يتكلم في مفهوم النجاح وصناعة الأهداف. لأن باب ذلك هو التوفيق الإلهي. ومن فطنه الله إليه لهو الموفق، ولأن هذا الهدف يحتاج إلى يقين بوعد الله.  

درجة الفردوس الأعلى أُمْنِيَةٌ دَعَا بِهَا الصَّالِحُونَ، وَسَعَى لَهَا الْعَامِلُونَ. كَمْ تَرَقْرَقَتْ لِأَجْلِهَا الدُّمُوعُ عَلَى الْمَحَاجِرِ! وَكَمَ تَلَجْلَجَتْ طَلَبًا لَهَا الدَّعَوَاتُ فِي الْحَنَاجِرِ! يَدْخُلُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ - مَسْجِدَهُ، وَقَدْ أَسْدَلَ اللَّيْلَ سُدُولَهُ، فَيَرَى عَبْدَاللهِ بْنَ مَسْعُودٍ وَاقِفًا يُنَاجِي رَبَّهُ، فَإِذَا هُوَ يَسْمَعُ مِنْ دُعَائِه :ِ(اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ إِيمَانًا لَا يَرْتَدُّ، وَنَعِيمًا لَا يَنْفَذُ، وُمُرَافَقَةَ مُحَمَّدٍ فِي أَعْلَى الْخُلْدِ). والفردوسُ موطنُ الأنبياءِ في الجنة،

وَنَبِيُّنَا - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي أَعْلَى جِنَانِهَا، فِي جَنَّةِ الْفِرْدَوْسِ تَحْتَ عَرْشِ الرَّحْمَنِ، فَمَنْ رَافَقَهُ نَبِيُّهُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنَّمَا هُوَ يَتَنَعَّمُ مَعَ نَعِيمِ مُرَافِقِيهِ بِنَعِيمِ جَنَّةِ الْفِرْدَوْسِ، وَالَّتِي مِنْهَا تُفَجَّرُ أَنْهَارُ الْجَنَّةِ الْأَرْبَعَةُ. يَا أَحْبَابَ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَنْ مِنَّا لَا يَتَمَنَّى مُرَافَقَتَهُ؟ مَنْ مِنَّا لَا يَتَمَنَّى أَنْ يَكْحَلَ عَيْنَيْهِ بِرُؤْيَةِ خَيْرِ الْبَشَرِ، فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ؟ .

الفردوسُ أشرفُ منازلِ الجنة، وأعلى درجاتها، وخيرُ نعيمها، قال سبحانه: (إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ، كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا، خَالِدِينَ فِيهَا، لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا)، أي: لا يبغي أهلُها تحوُّلاً عنها؛ حبًا ورغبةً فيها. 

ومن الفردوس تتفجرُ أنهار الجنة، وليس فوقَه إلا عرشُ الرحمن، قال ﷺ: (فَإِذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ؛ فَسَلُوهُ الفِرْدَوْسَ، فَإِنَّهُ أَوْسَطُ الجَنَّةِ، وَأَعْلَى الجَنَّةِ، وَفَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ، وَمِنْهُ تَفَجَّرُ أَنْهَارُ الجَنَّة). أخرجه البخاري.

ولما أُصِيبَ حَارِثَةُ بنُ سراقةَ يَوْمَ بَدْرٍ وَهُوَ غُلاَمٌ، جَاءَتْ أُمُّهُ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ عَرَفْتَ مَنْزِلَةَ حَارِثَةَ مِنِّي، فَإِنْ يَكُنْ فِي الجَنَّةِ؛ أَصْبِرْ وَأَحْتَسِبْ، وَإِنْ تَكُ الأُخْرَى؛ تَرَى مَا أَصْنَعُ، فَقَالَ: (وَيْحَكِ، أَوَهَبِلْتِ، أَوَجَنَّةٌ وَاحِدَةٌ هِيَ، إِنَّهَا جِنَانٌ كَثِيرَةٌ، وَإِنَّهُ فِي جَنَّةِ الفِرْدَوْسِ). وفي رواية الترمذي؛ قَالَ ﷺ: (يَا أُمَّ حَارِثَةَ؛ إِنَّهَا جِنَانٌ فِي جَنَّةٍ، وَإِنَّ ابْنَكِ أَصَابَ الْفِرْدَوْسَ الْأَعْلَى، وَالْفِرْدَوْسُ رَبْوَةُ الْجَنَّةِ وَأَوْسَطُهَا وأَفْضَلُهَا). والفردوسُ نزلٌ أعدَّه اللهُ للأصفياء بيده؛ سأل موسى عليه السلامُ ربَّه عن أعلى أهلِ الجنةِ منزلةً، فقال سبحانه: (أُولَئِكَ الَّذِينَ أَرَدْتُ، غَرَسْتُ كَرَامَتَهُمْ بِيَدِي وَخَتَمْتُ عَلَيْهَا، فَلَمْ تَرَ عَينٌ، وَلَمْ تَسْمَعْ أُذُنٌ، وَلَمْ يَخْطُرْ عَلَى قَلْبِ بَشَر). اللهم اجعلنا منهم يا رب العالمين، وانفعنا بنور كتابك المبين، وبسُنَّة سيد المرسلين، أقول قُولِي هذا وأستغفِر اللهَ لي ولكم ولجميع المسلمين.

الخطبة الثانية

الحمد لله، على فضله وكرمه، والصلاة والسلام، على خير خلقه وأفضل رسله.

أما بعد: عباد الله: إن طريقَ تحصيلِ الفردوس، قد أبانه الله تعالى في صدرِ سورةِ المؤمنون؛ في ستِ خصالٍ تتحققُ في المؤمن، أولى هذه الصفات: الخشوعُ في الصلاة: قال سبحانه: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ﴾، فقلوبُهم في صلاتِهم حاضرة، وجوارحُهم ساكنة، استشعروا قربَ مولاهم، ونظرَه إياهم، وعلمَه بسرائرهم، ومردَّهم إليه؛ فذلَّت له نفوسُهم، واطمأنت بذكره قلوبُهم.

 وثاني صفاتِ ورثة الفردوس: الإعراضُ عن اللغو: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ﴾، ونزَّه اللهُ تعالى المؤمنين عنه في الجنان فقال سبحانه: ﴿لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلا سَلامًا﴾، ﴿لا يسمعون فيها لغوًا ولا كِذابًا﴾. 

وثالثُ صفاتِ ورثةِ الفردوس: التزكية: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ﴾، زكوا نفوسَهم من سيء الأخلاق؛ وأدوا زكاةَ أموالهم؛ طيبةً بها نفوسهم؛ فكانت زكاتُهم زكاتَهم.

 ورابعُ صفاتِ ورثةِ الفردوس: حفظُ الفروج: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُون، إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَامَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ، فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ﴾، حَفِظوا العوراتِ بالسترِ والعفة، وغضوا أبصارَهم عن رؤيةِ ما حرم الله؛ فوعدَهم ربُّهم بالأجرِ العظيمِ: ﴿والحافظين فروجهم والحافظات، والذاكرين الله كثيرا والذاكرات، أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما﴾. 

وخامسُ صفاتِ ورثةِ الفردوس: رعايةُ الأمانة والعهد: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ﴾، مع الله تعالى ومع الخلق، لذا كانت من صفاتِ أنبياءِ الله -عليهم السلام-، حيث قال كلُّ نبيٍ لقومه: ﴿إني لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ﴾، ومن صفات المنافق: أنه (إذا ائتمنَ خان).

وسادسُ الصفات؛ وهو مرتبطٌ بأولها: المحافظة على الصلاة: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ﴾، فيرقبون في صلاتهم: الوقتَ والشروطَ؛ والأركانَ والواجبات، ويأتون بالنوافل؛ سدَّاً للخلل؛ وجبراً للنقص، قال ﷺ: (ما من امرئٍ مُسلمٍ تحضُرُه صلاةٌ مكتوبةٌ؛ فيُحسِنُ وضوءَها وخشوعَها وركوعَها؛ إلا كانت كفَّارةً لما قبلَها من الذنوبِ ما لم تُؤتَ كبيرةٌ، وذلك الدهرَ كلَّه). أخرجه مسلم.

ثم قال الله تعالى في خَتْم تلك الصفات: ﴿أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ، الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ، هُمْ فِيهَا خَالِدُون﴾، 

فهذا نزلُ الفردوس، وتلكَ سبلُه، فلنصدقِ العزمَ في الطلب، ولنتوكلْ على الله في القَصْد، ولنجاهدْ أنفسنَا في ملازمةِ تلك الخصال؛ فمن جاهدَ هُدِي: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا؛ وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾.  

اللهم إنا نسألك الجنة، وما قرب إليها من قولٍ وعمل، ونعوذ بك من النار، وما قرب إليها من قول وعمل. 

اللهم إنا نسألك الفردوس الأعلى من الجنة، ووالدِينا ووالدِيهم وأزواجنا وذُرِّيَّاتنا، إنك سميعُ الدعاء. 

اللَّهُمَّ إِنِّا نسْأَلُكَ إِيمَانًا لَا يَرْتَدُّ، وَنَعِيمًا لَا يَنْفَدُ، وَمُرَافَقَةَ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ فِي أَعْلَى جَنَّةِ الْخُلْدِ.

 

المرفقات

1756303511_الفردوس.pdf

1756303515_الفردوس.docx

المشاهدات 285 | التعليقات 1

.