القيم النبوية في إدارة المال والأعمال

د مراد باخريصة
1447/01/18 - 2025/07/13 14:39PM

القيم النبوية في إدارة المال والأعمال

الخطبة الأولى:

الحمد لله الأول والآخر، الظاهر والباطن، لا إله إلا هو، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير.

نشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الملك الحق المبين، ونشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أرسله الله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، ولو كره الكافرون.

اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين.

أما بعد، عباد الله، أوصيكم ونفسي المقصّرة بتقوى الله عزَّ وجلَّ، فهي وصية الله لعباده الأولين والآخرين: ﴿وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ﴾ [النساء: 131].

أيها المؤمنون: حديثنا اليوم عن أمرٍ يمس حياة الناس ومعاشهم، ويؤثر في استقرارهم وطمأنينتهم، ألا وهو المال والتصرف فيه، وما جاء به الإسلام من قيم نبوية عظيمة تنظّمه وتحكمه.

لقد عمّ الخلل عالمنا المعاصر عندما انفصل المال عن القيم، والاقتصاد عن الدين، والمعاملة عن الأخلاق، فظهرت الأزمات المالية، والانهيارات الاقتصادية، وساد الجشع والاحتكار والفساد.

نرى اليوم من يتفنن في الربا تحت مسميات جديدة، ومن يغلف الغش التجاري بعبارات تسويقية براقة، ومن يبرر الاستغلال المالي باسم "الفرص الاستثمارية"!

لكن، يجب أنْ نعلم أنَّ الإسلام لا يعرف هذا الانفصال، فالرسول ﷺ جاء بدينٍ ينظم حياة الإنسان كلها: عقيدةً، وعبادةً، وسلوكًا، واقتصادًا، وعلاقاتٍ مالية، ليقيم بها العدل، ويحقق بها البركة، ويصون بها الكرامة.

وقد أرسى النبي ﷺ في سنته النبوية المطهّرة منظومة متكاملة من القيم المالية التي تحفظ الحقوق، وتنشر العدالة، وتمنع الظلم والفساد.

🔹 فمن هذه القيم النبوية:

الأمانة: يقول النبي ﷺ: "التاجر الصدوق الأمين مع النبيين والصديقين والشهداء" [رواه الترمذي].

فكم نحتاج في زماننا إلى هذه الأمانة في البيع والتوزيع والتسويق، بعدما أصبح الغش أمرًا شائعًا، وتزييف البضائع وخلط المنتجات تجارةً رائجةً لا يتحرّج منها كثيرون.

وكذلك الصدق في المعاملة، فإن الرسول ﷺ يقول: "من غشنا فليس منا" [رواه مسلم] وكم من مسلم اليوم يُخدع في سلعة اشتراها بثمنه وجهده، ليكتشف أنها تالفة أو مزيفة! فأين نحن من هذا الهدي النبوي الشريف؟

وحرَّم الإسلام الغرر والخداع والربا، كما قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً﴾ [آل عمران: 130]، وقال ﷺ: "لعن الله آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه" [رواه مسلم].

وفي زمننا هذا تتزين المعاملات الربوية بأسماء ناعمة مثل: "فوائد بسيطة"، و"هامش ربح"، و"منتج تمويلي"، لكنها تبقى في حقيقتها أكلًا للحرام، ومحقًا للبركة، وسببًا للضيق والكرب.

ومن القيم النبوية في إدارة المال والأعمال قيمة العمل وكسب الحلال، كما قال ﷺ:"ما أكل أحد طعامًا قط خيرًا من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داوود كان يأكل من عمل يده" [رواه البخاري].

ولشبابنا اليوم، نقول: لا تستصغروا الأعمال الحلال، ولو كانت متواضعة، فالعز في الحلال، والبركة في التعب لأجل الحلال، لا في التسوّل أو أكل الحرام.

وكذلك الاعتدال في الاستهلاك، والنهي عن الإسراف، فإن الله تعالى يقول: ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا﴾ [الأعراف: 31].

وها نحن اليوم نعيش في مجتمعات استهلاكية، لا تشتري الحاجة بل تشتهي الإعلان، ولا تزن المشتريات بالحاجة بل بالترف، فاختلت الموازين وضاعت البركات.

أيها الأحبة: هذه القيم وغيرها جاءت بها السنة النبوية لتربّي النفوس على التوازن، وتضبط حركة المال بالرضا والعدل، وتحفظه من أن يكون وسيلة للطغيان أو الاستعلاء، كما قال ﷺ:"لن تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يُسأل عن أربع... عن ماله: من أين اكتسبه، وفيم أنفقه" [رواه الترمذي].

المال في الإسلام -يا عباد الله- أمانةٌ واختبار، لا غايةٌ ولا وسيلةٌ للترف أو الظلم، فاتقوا الله في أموالكم، وراقبوه في معاملتكم، وتحروا الحلال الطيب، فإن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.


الخطبة الثانية:

الحمد لله على نعمائه، والشكر له على آلائه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن سار على طريقه واتبع هداه.

أما بعد، عباد الله: إن الإسلام لم يكتفِ بتحليل الحلال وتحريم الحرام، بل أراد أن يبني إنسانًا ربانيًا، تقيًا في السوق كما هو في المسجد، أمينًا في المعاملة كما هو خاشع في الصلاة.

فكانت توجيهات السنة النبوية شاملةً لأدق تفاصيل المال والتجارة.

ومن القيم التي يجب أن تسود في عالم المال:

العدل والإنصاف: يقول ﷺ: "رحم الله عبدًا سمحًا إذا باع، سمحًا إذا اشترى، سمحًا إذا اقتضى" [رواه البخاري].

كم من التجار اليوم من يكون شحيحًا وقت البيع، ويجحف في السعر، ويتعسّر في السداد؟!

وكذلك مساعدة الفقير وعدم التضييق عليه، يقول ﷺ:"من نفّس عن مؤمن كربةً من كرب الدنيا، نفّس الله عنه كربةً من كرب يوم القيامة" [رواه مسلم].

وفي زمن الكساد والبطالة وارتفاع الأسعار، ينبغي أن نكون عونًا للفقراء، لا عبئًا فوق معاناتهم.

ومن القيم التي يجب أن تسود في عالم المال: التكافل المالي: بالزكاة، والصدقات، والقروض الحسنة، والنهي عن الاحتكار والغبن والغش.

وقد أصبحت صور هذا التكافل اليوم أوسع وأيسر بفضل الجمعيات والصناديق الوقفية والمبادرات المجتمعية، فعلينا أن ندعمها ونشارك فيها، فهي امتدادٌ عملي لقوله ﷺ: "المسلم أخو المسلمِ؛ لا يَظْلِمُهُ، ولا يُسْلِمُهُ، ومَن كانَ في حاجَةِ أخيهِ؛ كان الله في حاجَتِه، ومَن فَرَّج عن مسلمٍ كُربةً؛ فرَّج الله عنهُ كُرْبةً مِن كرباتِ يومِ القيامَةِ، ومَن سَتَرَ مسلمًا؛ ستره الله يومَ القيامَةِ" [رواه مسلم].

عباد الله: إن أمتنا لن تنهض نهضة حقيقية إلا إذا ربطت اقتصادها بالقيم، وأخلاقها بالربانية، ومعاملاتها بالإيمان.

فلا تغرنكم الأرباح السريعة، ولا يغرّنكم زيف العروض، ولا تستحلوا المال الحرام بالحِيَل.

يقول ﷺ عن رجلٍ يرفع يديه إلى السماء: "يا رب، يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، فأنّى يُستجاب له؟" [رواه مسلم].

اللهم بارك لنا في أرزاقنا، وطهّر أموالنا من الحرام،

اللهم ارزقنا القناعة والكسب الحلال، وابعد عنا الربا والغش والاحتكار.

اللهم اجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، واغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين أجمعين.

وصلِّ اللهم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

المرفقات

1752406746_القيم النبوية في إدارة المال والأعمال.doc

المشاهدات 14 | التعليقات 0