«..فهُمْ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُمْ» 11 / 4/ 1447هـ
د عبدالعزيز التويجري
الخطبة الأولى / «هُمْ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُمْ» 11 / 4/ 1447هـ
الحمد لله الولي الحميد ، يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ذو العرش المجيد، وأشهد أن نبينا محمدا عبد الله ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه ومن تبعهم بإحسان على يوم الدين .. أما بعد ..
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} .
أخرج البخاري ومسلم عَنْ أَبِي مُوسَى h، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ r: «إِنَّ الأَشْعَرِيِّينَ إِذَا أَرْمَلُوا فِي الغَزْوِ، أَوْ قَلَّ طَعَامُ عِيَالِهِمْ بِالْمَدِينَةِ جَمَعُوا مَا كَانَ عِنْدَهُمْ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ اقْتَسَمُوهُ بَيْنَهُمْ فِي إِنَاءٍ وَاحِدٍ بِالسَّوِيَّةِ، فَهُمْ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُمْ»
من أعظم مراتب الأخلاق الإحساس بالشعور ..
الشعور هو اللغة الصامتة التي يتحدث بها القلب ..
الشعور أن يهتز الوجدان رحمةً ولطفا بمن حولك قريباً وجاراً وصديقاً وزوجة وابناً..
الشعور أن تتحرك المشاعر لتواسي أخاً محزوناً بكلمة أو جاراً بمعروف أو محروماً بمواساة ، أو قريباً بصلةٍ ، أو أمةً مسلمة مضطهدة بدعوة ..
لا يأتي الإحساس بعناء الآخرين وهموم الغير إلا حين تغيب الأنانية من الشخص ، ويحل محلها الشعور بالجسد الواحد ..«إِنَّ الأَشْعَرِيِّينَ إِذَا أَرْمَلُوا فِي الغَزْوِ، أَوْ قَلَّ طَعَامُ عِيَالِهِمْ بِالْمَدِينَةِ جَمَعُوا مَا كَانَ عِنْدَهُمْ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ اقْتَسَمُوهُ بَيْنَهُمْ»
لقد جسد الأشعريون في هذا الموقف العظيم أسمى معاني العطاء ، وأعظم روح التكافل الاجتماعي والاخوي في أنبل صوره ..فكانت الجائزة:«فهُمْ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُمْ»
«لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ، حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ وجَارِهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ» لا يكتمل إيمان العبد ولو صلى وصام واجتهد حتى ينتزع من قلبه الانانية ، وحتى يبذل من مشاعره وعطائه لإخوانه ..
فكن رحيماً إذا ما الجارُ قد جاعا وافتح له الباب لا تسأله لـمَ جاعا
تكافل الناس نورٌ في دجى الزمنِ فاشعل قلوبهم ، لا يكفينا الشمَعا
الشعور خلقٌ صامت في صوته ، عالٍ في أثره ، رفيعٌ قدره ، عظيمٌ أجره ..
الشعور ليس عاطفةٌ طارئه ، بل نورٌ يسري في القلب فيكشف وجع الضعيف ، وخجل المحتاج ، وصمت المحزون ، وفرح المتفائل .. ولو لم ينطق ..
لما رجع النبي r من أحد رآى جابر بن عبدالله يخيم عليه الحزن ويعلوه الهمّ وقد قتل أبيه في أحد ، فأحس النبي r بعمق الفاجعة ، واليتم المثقل على جابر وعنده تسع أخوات .. فسلاه بكلمةٍ تضمدُ جراحه وتفرح قلبه .. فقال له "يَا جَابِرُ، مَا لِي أَرَاكَ مُنْكَسِرًا"؟ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اسْتُشْهِدَ أَبِي ، فَقَالَ: "أَلَا أُبَشِّرُكَ بِمَا لَقِيَ اللَّهُ بِهِ أَبَاكَ"؟ قلت: بلى يا رسول اللَّهِ، قَالَ: "مَا كَلَّمَ اللَّهُ أَحَدًا قَطُّ إلا من وراء حجاب، وإن الله أحيى أَبَاكَ فَكَلَّمَهُ كِفَاحًا، فَقَالَ: يَا عَبْدِي، تَمَنَّ أُعْطِكَ، قَالَ: تُحْيِينِي فَأُقْتَلَ قَتْلَةً ثَانِيَةً، قَالَ اللَّهُ: إِنِّي قَضَيْتُ أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ"، وَنَزَلَتْ: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} .. أخرجه الترمذي وغيره
قمةٌ احساس ومواساة لنفس مكلومة ، مما جعلت جابراً يقترب من النبي r ليكون أباً له ، والروح التي يؤوي إليها .. قال جابر: لمأُصِيبَ أبي، تَرَكَ تسع بناتٍ وَدَيْنًا، فطَلَبْتُ من أَصْحَابِ الدَّيْنِ أَنْ يَضَعُوا بَعْضًا مِنْ دَيْنِهِ فَأَبَوْا، فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ r، فَاسْتَشْفَعْتُ بِهِ عَلَيْهِمْ، فَأَبَوْا، فَقَالَ النبي r: «صَنِّفْ تَمْرَكَ كُلَّ شَيْءٍ مِنْهُ عَلَى حِدَتِهِ، عِذْقَ ابْنِ زَيْدٍ عَلَى حِدَةٍ، وَاللِّينَ عَلَى حِدَةٍ، وَالعَجْوَةَ عَلَى حِدَةٍ، ثُمَّ أَحْضِرْهُمْ حَتَّى آتِيَكَ»، فَفَعَلْتُ، ثُمَّ جَاءَ r فَقَعَدَ عَلَيْهِ، وَكَالَ لِكُلِّ رَجُلٍ حَتَّى اسْتَوْفَى، وَبَقِيَ التَّمْرُ كَمَا هُوَ، كَأَنَّهُ لَمْ يُمَسَّ . أخرجه البخاري ..
ولم ينسى جابر هذا الشعور من النبي r تجاهه ، والإحساس بهمومه ومصابه ، فكان يتحرى الوقت ليرد للنبي r بعضاً من هذا الوفاء .. قال جابر لَمَّا حُفِرَ الخَنْدَقُ رَأَيْتُ بِالنَّبِيِّ r خَمَصًا شَدِيدًا، فَانْكَفَأْتُ إِلَى امْرَأَتِي، فَقُلْتُ: هَلْ عِنْدَكِ شَيْءٌ؟ فَإِنِّي رَأَيْتُ بِرَسُولِ اللَّهِ r خَمَصًا شَدِيدًا، فَأَخْرَجَتْ إِلَيَّ جِرَابًا فِيهِ صَاعٌ مِنْ شَعِيرٍ، وَلَنَا بُهَيْمَةٌ دَاجِنٌ فَذَبَحْتُهَا، وَطَحَنَتِ الشَّعِيرَ، ثُمَّ وَلَّيْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ r، فَجِئْتُهُ فَسَارَرْتُهُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ذَبَحْنَا بُهَيْمَةً لَنَا وَطَحَنَّا صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ كَانَ عِنْدَنَا، فَتَعَالَ أَنْتَ وَنَفَرٌ مَعَكَ، فَصَاحَ النَّبِيُّ r فَقَالَ: «يَا أَهْلَ الخَنْدَقِ، إِنَّ جَابِرًا قَدْ صَنَعَ سُورًا، فَحَيَّ هَلًا بِهَلّكُمْ» فجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ r يَقْدُمُ بالمهاجرين والانصار ، حَتَّى جِئْتُ امْرَأَتِي، فَقَالَتْ: بِكَ وَبِكَ، فَقُلْتُ: قَدْ فَعَلْتُ الَّذِي قُلْتِ، فعَمَدَ إِلَى بُرْمَتِنَا فَبَصَقَ وَبَارَكَ، ثُمَّ قَالَ: «ادْعُ خَابِزَةً فَلْتَخْبِزْ مَعِي، وَاقْدَحِي مِنْ بُرْمَتِكُمْ وَلاَ تُنْزِلُوهَا» قال جابر : وَهُمْ أَلْفٌ، فَأُقْسِمُ بِاللَّهِ لَقَدْ أَكَلُوا حَتَّى تَرَكُوهُ وَانْحَرَفُوا، وَإِنَّ بُرْمَتَنَا لَتَغِطُّ كَمَا هِيَ، وَإِنَّ عَجِينَنَا لَيُخْبَزُ كَمَا هُوَ . متفق عليه.
أرايتم كيف يصنع الشعور والاحساس بالآخرين .. يولد عطاءً ، ويزرع حباً ووفاءً ، ويعلي قدراً مكاناً ..
الناس للناس مادام الوفاء بهم والخير يبقى وإن طال الزمان بهم
{وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}
استغفر الله لي ولكم وللمسلمين فاستغفروه وتوبوا إليه إن ربكم لغفور شكور ..
الخطبة الثانية : الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين ، وعلى آله وصحبه والتابعين.. أما بعد .
الشعور بالآخرين ليس حديثاً يقال ، بل مواقف تصنع .. الشعور أن تشعر بجوع الجائع قبل أن تمتد يده ، وأن ترى خجل المحتاج دون أن يذهب ماء وجه ..
الشعور بالغير ليس عطاء مالٍ فقط..بل عطاءُ قلبٍ، وسماعُ إذنٍ وبصرُ عينٍ ، واحساسُ شعور .."وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً، فَرَّجَ اللهُ عَنْهُ بِهَا كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ"
ما أعظم الشعور أن ترى منكسراً فتواسيه بكلمة .. لا أن تزيد جرحه وتهيض مشاعره..
الإحساس بالشعور أن ترى حائراً قد تاه طريق الحق وتخبطت أفكاره في أودية الشبهات أو انغمست يده في وحل الشهوات فتمسك به وتدله للحق والرشد بنصيحة وتنبيه وتعليم ..
الإحساس بالشعور أن ترى زوجتك متعبة فتقف إلى جنبها ، أو تلبي حاجة أبيك أو أمك قبل أن يتكلم ، وأن تحسن إلى جارك دون ان تنتظر مكافئة ..
الشعور أن تحس بغربة المغترب عن بلده ووطنه .. فتدخل السرور عليه ..
الشعور بالأخوة أن تزوره دون مناسبة ، وتهاتفه دون حاجه ، وتدعوا له دون علمه ، وتفرح بنجاحه أو برزقٍ له ، كأنه نجاحك ..
العظماء يمتد شعورهم ليحس حتى بالبهائم .. قال عبد الله بن جعفرٍh : أرْدفَني رسولُ الله r خلفَه ذاتَ يومٍ، فدخل حائطاً لرجلٍ من الأنصار، فإذا جملٌ، فلما رأى الجملُ رسولَ اللهِ r حَنَّ وذَرَفَت عيناه، فأتاه النبيُّ r فمسح ذِفْراه فسكتَ، فقال: "من ربُّ هذا الجملِ؟ لمن هذا الجملُ؟ " فجاء فتًى من الأنصارِ، فقال: لي يا رسول الله، قال: "أفلا تتقي اللهَ في هذه البهيمةِ التي مَلَّككَ اللهُ إياها، فإنه شكا إليَّ أنك تُجِيعُه وتُدْئبه" أخرجه أبوداود ..
يَرقى على قممِ الإحسانِ من خُلُقٍ كأنّهُ من جمال الاخلاق مقتربا
ما بينَ دمعِ بعـــــــيرٍ جــــادَ مُقلَـتُـــــــــــــهُ وبينَ صمتِ يتيمٍ شفَّهُ التعبــــــا
ما كــــان إلا نبيَّ اللهِ في كـــــــــــــــرمٍ يُهدي الشعورَ، ويُجري الخيرَ مُنسكبا
اللهم ارزقنا الخير والبر والإحسان ، واغفر لنا تقصيرنا وإسرافنا في امرنا ..اللهم آمنا في دورنا وأصلح ولاة أمورنا ....
.. اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد ...
المرفقات
1759401292_«هُمْ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُمْ».docx
1759401292_«هُمْ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُمْ».pdf