كتاب التوحيد(3)باب من حقق التوحيد دخل الجنة بغير حساب
تركي بن علي الميمان
عنوان الخطبة: كتاب التوحيد(3)باب من حقق التوحيد دخل الجنة بغير حساب
الخطبة الأولى:
{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ}[الأنعام:1]، خلق الخلق ليعبدوه، وبالإلهية يفردوه، أمر عباده بطاعته، ونهاهم عن معصيته، أحمده سبحانه وأشكره، ومن مساوي عملي أستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، جاءنا بالنور والهدى ودين الحق، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيرا.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، وأفردوه بالعبادة، وتوكلوا عليه، وعلقوا قلوبكم به، {هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}[غافر:65]
عباد الله: تحقيق التوحيد، مطلب رئيس للنجاة يوم القيامة؛ وهو عزيز في الأمة، وهو انجذاب الروح إلى الله محبة وخوفا، وإنابة وتوكلا، ودعاءً وإخلاصا، وإجلالاً وهيبة، وتعظيماً وعبادة؛ وتحقيق التوحيد يكون بإخلاص العمل لله تعالى، وتخليصه من شوائب الشرك والبدع والمعاصي، وتكميله بفعل السنن وترك المكروهات. وبالجملة فلا يكون في قلبه شيء لغير الله، ولا إرادة لما حرم الله، ولا كراهة لما أمر الله؟ وذلك هو حقيقة لا إله إلا الله، فإن الإله هو المألوه المعبود. وما أحسن ما قال ابن القيم:
فلواحدٍ كن واحداً في واحدٍ... أعني سبيل الحق والإيمان
وذلك هو حقيقة الشهادتين، فمن قام بها على هذا الوجه فهو من السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة بلا حساب ولا عذاب.[تيسير العزيز الحميد(99)]
ولا يوجد تحقيق التوحيد إلا في أهل الإيمان الخلَّص الذين أخلصهم الله واصطفاهم من خلقه، كما قال تعالى في يوسف عليه السلام: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ}[يوسف:24]، وهم في صدر هذه الأمة كثيرون، وفي آخرها هم الغرباءُ وقد قلُّوا، وهم الأعظمون قدراً عند الله، وقال تعالى عن خليله عليه السلام: {قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ. إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ}[الأنعام:78-79]، فدلت هذه الآية العظيمة على أن كمال الإخلاص، إنما يوجد بترك الشرك والبراءة منه وممن فعله.[قرة عيون الموحدين(ص133-134)].
وقال الله تعالى-مادحاً خليله إبراهيم عليه السلام-: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}[النحل:120]، فالله تعالى وصف إبراهيم عليه السلام بهذه الصفات الجليلة التي هي أعلى درجات تحقيق التوحيد، ترغيباً في اتباعه في التوحيد، وتحقيق العبودية باتباع الأوامر، وترك النواهي، فمن اتبعه في ذلك، فإنه يدخل الجنة بغير حساب ولا عذاب كما يدخلها إبراهيم عليه السلام.
الأولى: أنه كان أمة؛ أي: قدوة وإماماً معلماً للخير، وما ذاك إلا لتكميله مقام الصبر واليقين اللذين تنال بهما الإمامة في الدين.
الثانية: أنه كان قانتاً لله؛ أي خاشعاً مطيعاً، دائماً على عبادته وطاعته.
والثالثة: أنه كان حنيفاً؛ أي مائلاً منحرفاً قصداً عن الشرك إلى التوحيد.
والرابعة: {وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}؛ فقد فارق المشركين بالقلب واللسان والأركان، وأنكر ما كانوا عليه من الشرك بالله في عبادته، وكسر الأصنام، -تكذيباً لكفار قريش في زعمهم أنهم على ملة إبراهيم عليه السلام- وصبر على ما أصابه في ذات الله، وهذا هو تحقيق التوحيد، وهو أساس الدين ورأسه، كما قال تعالى: {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ
الْعَالَمِينَ}[البقرة:131].
وأنت تجد أكثر من يقول: لا إله إلا الله ويدَّعي الإسلام يفعل الشرك بالله في عبادته؛ بدعوة من لا يضر ولا ينفع من الأموات والغائبين، والطواغيت والجن وغيرهم، ويحبهم ويواليهم ويخافهم ويرجوهم، وينكر على من دعا إلى عبادة الله وحده وترك عبادة ما سواه، ويزعم أن ذلك بدعة وضلالة، ويعادي من عمل به وأحبه وأنكر الشرك وأبغضه، وبعضهم لا يعد التوحيد علماً ولا يلتفت إليه لجهله به وعدم محبته، فالله المستعان.[تيسير العزيز الحميد(ص99-100) - قرة عيون الموحدين(ص136)]
وحث الله تعالى-عباد الله- على صفات أهل الخير بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ. وَالَّذِينَ هُمْ بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ. وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ}[المؤمنون:57-59]؛ فوصف المؤمنين السابقين إلى الجنة، وأثنى عليهم بالصفات التي أعظمها أنهم {بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ}؛ قال ابن كثير رحمه الله: {وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ} أي: لا يعبدون معه غيره، بل يوحدونه ويعلمون أن لا إله إلا الله أحداً صمداً لم يتخذ صاحبة ولا ولدا، وأنه لا نظير له ولا كفء له. ا.هـ [المصباح المنير في تهذيب تفسير ابن كثير(ص731)]
فترك الشرك يتضمن كمال التوحيد بمعرفته على الحقيقة، ومحبته وقبوله والدعوة إليه، كما قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآَبِ}[الرعد:36]. [تيسير العزيز الحميد(ص101) - قرة عيون الموحدين(ص136-137)]
وعن حصين بن عبد الرحمن قال: كنت عند سعيد بن جبير فقال: أيكم رأى الكوكب الذي انقض البارحة؟ فقلت: أنا، ثم قلت: أما إني لم أكن في صلاة، ولكني لُدِغت، قال: فما صنعت؟ قلت: ارتقيت قال: فما حملك على ذلك؟ قلت: حديث حدثناه الشعبي، قال وما حدثكم؟ قلت: حدثنا عن بريدة بن الحصيب أنه قال: لا رقية إلا من عين أو حمة. قال: قد أحسن من انتهى إلى ما سمع. ولكن حدثنا ابن عباس عن النبي صَلى الله عليه وسلم أنه قال: «عرضت علي الأمم، فرأيت النبي ومعه الرهط ،والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي ليس معه أحد، إذ رفع لي سواد عظيم، فظننت أنهم أمتي، فقيل لي: هذا موسى وقومه، فنظرت فإذا سواد عظيم، فقيل لي: هذه أمتك ومعهم سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، ثم نهض فدخل منزله. فخاض الناس في أولئك، فقال بعضهم: فلعلهم الذين صحبوا رسول الله صَلى الله عليه وسلم، وقال بعضهم: فلعلهم الذين ولدوا في الإسلام فلم يشركوا بالله شيئاً،-وذكروا أشياء-، فخرج عليهم رسول الله صَلى الله عليه وسلم فأخبروه، فقال: «هم الذين لا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون» فقام عكاشة بن محصن فقال: ادع الله أن يجعلني منهم. فقال: «أنت منهم» ثم قام رجل آخر فقال: ادع الله أن يجعلني منهم. فقال: «سبقك بها عكاشة».[رواه البخاري (3410) ومسلم(220)-ورد بألفاظ مفرقا(المصدر كتاب التوحيد)]
=فهذا الحديث في صفة الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، وهذه صفة من صفاتهم، وتلك الصفة خاصة بهم، ولا يلتبس أمرهم بغيرهم؛ لأن هذه الصفة كالشامة يعرفون بها. فهؤلاء هم الذين حققوا التوحيد، (هم الذين لا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون) فذكر أربع صفات لهم:
الأولى: أنهم لا يسترقون: أي لا يطلبون الرقية؛ لأن الطالب للرقية يكون في قلبه مَيْلٌ للراقي، حتى يُرفع ما به من جهة السبب.
والثانية: ولا يكتوون: والكي مكروه في أصله؛ لأن فيه تعذيباً بالنار، مع أنه مأذون فيه شرعاً. فصار تعلق القلب بهذا الكي من جهة أنه سبب يؤثر دائماً؛ فلا يسألون غيرهم أن يكويهم، استسلاماً للقضاء وتلذذاً بالبلاء.
الثالثة: ولا يتطيرون: أي لا يتشاءمون بالطيور ونحوها؛ فلا يقدم على أمر أو يحجم عنه، تطيراً وتشاؤماً، بسبب أمر حدث أمامه.
الرابعة: وعلى ربهم يتوكلون: ذكر الأصل الجامع الذي تفرعت عنه هذه الأفعال وهو التوكل على الله، وصدق الالتجاء إليه، والاعتماد بالقلب عليه الذي هو خلاصة التفريد، ونهاية تحقيق التوحيد، الذي يثمر كل مقام شريف من المحبة والخوف والرجاء، والرضا به رباً وإلهاً، والرضا بقضائه، بل ربما أوصل العبد إلى التلذذ بالبلاء، وعده من النعماء، فسبحان من يتفضل على من يشاء بما يشاء، والله ذو الفضل العظيم. [تيسير العزيز الحميد(ص108-110) - التمهيد لشرح كتاب التوحيد(ص61-63)]
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:161-163]
بارك الله لي ولكم في القرآن...
الخطبة الثانية:
الحمدلله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، كما يحب ربنا ويرضى، أحمده سبحانه وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، وتوكلوا عليه، {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ}[التغابن:13]
واعلموا-عباد الله- أن الحديث-في صفة الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب- لا يدل على أن الذين حققوا التوحيد لا يباشرون الأسباب أصلاً كما يظنه الجهلة؛ فإن مباشرة الأسباب أمر فطري ضروري لا انفكاك لأحد عنه حتى الحيوان البهيم، بل نفس التوكل مباشرة لأعظم الأسباب كما قال تعالى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ}[الطلاق:3] أي كافيه؛ إنما المراد أنهم يتركون الأمور المكروهة مع حاجتهم إليها توكلاً على الله، كالاسترقاء والاكتواء، فتركهم له ليس لكونه سبباً لكن لكونه سبباً مكروهاً، لا سيما والمريض يتشبث بما يظنه سبباً لشفائه بخيط العنكبوت.
وأما نفس مباشرة الأسباب، والتداوي على وجه لا كراهية فيه، فغير قادح في التوكل، فلا يكون تركه مشروعاً، لما في الصحيحين عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ:" مَا أَنْزَلَ اللَّهُ دَاءً إِلَّا أَنْزَلَ لَهُ شِفَاءً"[رواه البخاري(5678) واللفظ له، ومسلم(2204)]؛ وعَنْ أُسَامَةَ بْنِ شَرِيكٍ، قَالَ: قَالَتْ الْأَعْرَابُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلَا نَتَدَاوَى؟ قَالَ: "نَعَمْ يَا عِبَادَ اللَّهِ، تَدَاوَوْا، فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَضَعْ دَاءً إِلَّا وَضَعَ لَهُ شِفَاءً، أَوْ قَالَ: دَوَاءً ، إِلَّا دَاءً وَاحِدًا، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا هُوَ؟ قَالَ: الْهَرَمُ"[رواه الترمذي(2159) وقال: حديث حسن صحيح. ط الرسالة].
وقال ابن القيم رحمه الله: وقد تضمنت هذه الأحاديث إثبات الأسباب والمسببات، وإبطال قول من أنكرها، والأمر بالتداوي، وأنه لا ينافي التوكل ،كما لا ينافيه دفع ألم الجوع والعطش، والحر والبرد: بأضدادها، بل لا تتم حقيقة التوحيد إلا بمباشرة الأسباب التي نصبها الله تعالى مقتضية لمسبباتها قدراً وشرعاً، وإن تعطيلها يقدح في نفس التوكل، كما يقدح في الأمر والحكمة. ويضعفه من حيث يظن معطلها أن تركها أقوى في التوكل. فإن تركها عجز ينافي التوكل الذي حقيقته اعتماد القلب على الله تعالى في حصول ما ينفع العبد في دينه ودنياه، ودفع ما يضره في دينه ودنياه، ولا بد مع هذا الاعتماد من مباشرة الأسباب، وإلا كان معطلاً للحكمة والشرع، فلا يجعل العبد عجزه توكلاً ولا توكله عجزاً. [تيسير العزيز الحميد(ص110-111) - فتح المجيد شرح كتاب التوحيد(ص61-63) – زاد المعاد(4/14-15)]
فلنتق الله تعالى-عباد الله-، ولنخلص العمل له سبحانه، ولنتوكل عليه {وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آَذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ}[إبراهيم:12] وصلوا وسلموا على نبيكم محمد
المرفقات
1761647729_كتاب التوحيد(3)باب من حقق التوحيد دخل الجنة بغير حساب.pdf
1761647830_كتاب التوحيد(3)باب من حقق التوحيد دخل الجنة بغير حساب.docx