اقتباس
لكن إن ساغ الاختلاف في الفرعيات ومسائل الاجتهاد، فإنه لا يصح أبدًا ولا يتصور ولا يسوغ في أصول الدين التي يجب أن تكون من البديهيات المسلَّمات، فكان لابد من أمر يقطع هذا النزاع ويحسم هذا الاختلاف في...
مع أن نصوص القرآن الكريم واحدة ثابتة راسخة لا تتغير ولا تتبدل، وكذلك الأحاديث النبوية الشريفة الصحيحة، لكنك ترى العلماء يختلفون ويتجادلون رغم أن النصوص موجودة وقد بلغتهم جميعًا وهي هي نفس النصوص بين يدي الجميع، فلماذا يختلفون؟! وكيف يختلفون؟! وعلى ما يختلفون؟! أليس ذلك عجيبًا!!
ونقول: إن من أسباب ذلك أن الأفهام تتفاوت والعقول تتفاضل ووجهات النظر تتشعب... نعم، النصوص واحدة، لكن العقول التي تفهم تلك النصوص ليست واحدة، بل متفاوتة.
وبالمثال يتضح المقال: فقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن الهرة: "إنها ليست بنجس، إنها من الطوافين عليكم والطوافات"(رواه أبو داود، وصححه الألباني)، هو كلام واضح صريح لا لبس فيه ولا غموض، ومع هذا فقد اختلفت فيه الأفهام؛ ما بين قائل بكراهة سؤرها كأبي حنيفة ومحـمد، وما بين قائل بعدم كراهته وهم الجمهور، يقول بدر الدين العيني معلقًا على هذا الحديث: "واحتج بذلك أبو يوسف من أصحابنا على أن سؤر الهر طاهر غير مكروه، وبه قال الشافعي ومالك وأحمد، وقال أبو حنيفة ومحمد: طاهر مكروه"(شرح سنن أبي داود، للعيني)، وأمثال ذلك كثير جد كثير تذخر بها كتب العلماء من مفسرين ومحدثين وفقهاء...
لكن هذا إن ساغ في الفرعيات ومسائل الاجتهاد، فإنه لا يصح أبدًا ولا يتصور ولا يسوغ في أصول الدين التي يجب أن تكون من البديهيات المسلَّمات، فكان لابد من أمر يقطع هذا النزاع ويحسم هذا الاختلاف في فهم نصوص الدين من آيات القرآن الكريم وأحاديث النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ كي لا يضيع الدين ضحية لتفاوت العقول واختلاف الأفهام، لذا كان الإجماع -الذي لابد له من نص يستند إليه- لحسم الخلاف وقطع النزاع، وصون أصول الدين عن الخضوع لاختلافات العقول وتضارب الآراء.
لذلك فقد عدَّ العلماء الإجماع المصدر الثالث للتشريع بعد الكتاب والسنة مباشرة، فحين يُجمِع العلماء على فهم معين في نص معين يصير إجماعهم حجة قاطعة لا يجوز مخالفتها.
***
ولعل سائلًا يسأل: ومن الذي شرع الإجماع؟ وما الدليل على حجيته؟
ونجيب: شرعه الله -عز وجل- في محكم التنزيل حين قال: (وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا)[النساء: 115]؛ فقد "روي أن الشافعي سئل عن آية من كتاب الله تدل على أن الإجماع حجة، فقرأ القرآن ثلاثمائة مرة حتى استخرج هذه الآية وهي قوله -تعالى-: (ويتبع غير سبيل المؤمنين)؛ وذلك لأن اتباع غير سبيل المؤمنين وهي مفارقة الجماعة حرام، فوجب أن يكون اتباع سبيل المؤمنين ولزوم جماعتهم واجبًا؛ وذلك لأن الله -تعالى- ألحق الوعيد بمن يشاقق الرسول ويتبع غير سبيل المؤمنين، فثبت بهذا أن إجماع الأمة حجة"(تفسير الخازن).
ويقول النسفي مفسرًا: "وهو دليل على أن الإجماع حجة لا تجوز مخالفتها كما لا تجوز مخالفة الكتاب والسنة؛ لأن الله -تعالى- جمع بين اتباع غير سبيل المؤمنين وبين مشاقة الرسول"، وكذا قال البيضاوي في تفسيره: "والآية تدل على حرمة مخالفة الإجماع".
واستدل العلماء كذلك بالآيات التي تزكي الأمة الإسلامية كقول الله -تعالى-: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ)[لبقرة: 43]، وكقوله -عز من قائل-: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ)[آل عمران: 110].
ثم شرعه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ فعن كعب بن عاصم الأشعري أنه سمع النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إن الله -تعالى- قد أجار أمتي من أن تجتمع على ضلالة"(رواه ابن أبي عاصم في السنة، وحسنه الألباني)، ودلالته واضحة على حجية الإجماع.
وقد استدل العلماء على حجيته أيضًا بأحاديث الأمر بلزوم الجماعة، كقوله -صلى الله عليه وسلم-: "ليس أحد يفارق الجماعة شبرًا فيموت، إلا مات ميتة جاهلية"(متفق عليه) وكقوله -صلى الله عليه وسلم-: "من أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة"(رواه الترمذي، وصححه الألباني)..
***
ودعونا نأخذ الأمر من بدايته فنسأل: وما هو الإجماع؟
ونجيب: الإجماع لغة: العزم، والاتفاق؛ قال الله -تعالى-: (فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ)[يونس: 71]"يعني فأحكموا أمركم واعزموا عليه؛ قال الفراء: الإجماع الإعداد والعزيمة على الأمر"(تفسير الخازن)، وقال القرطبي في تفسيره: "الإجماع الإحكام والعزم على الشيء، تقول: أجمعت الخروج وعلى الخروج: أي عزمت".
ومنه قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "من لم يجمع الصيام قبل الفجر، فلا صيام له"(رواه الترمذي، وصححه الألباني)؛ أي: يعزم عليه.
ومن معانيه: الاتفاق، وهذا واضح؛ تقول: أجمع القوم على كذا، أي: اتفقوا عليه.
وأما في الاصطلاح، فقد قيل في تعريفه ألفاظًا كثيرة، ولعل أقربها إلى الصواب هو قولهم: اتفاق كل المجتهدين من هذه الأمة في عصر من العصور على أمر من الأمور الشرعية.
والإجماع ليس نوعًا واحدًا، بل منه القطعي ومنه الظني، ومنه الصريح ومنه السكوتي، ومنه العملي ومنه التركي... كذلك فإن للإجماع شروطًا لابد من توافرها، ولابد له من مستند يقوم عليه... كما أن هناك أسئلة كثيرة تثور حوله، فمنها:
هل يمكن حصول الإجماع بعد عصر الصحابة؟ وما هو حكم منكر الإجماع ومخالفه؟ وهل جميع أنواع الإجماع متفق على حجيتها؟... فهذه الأمور وغيرها قد عقدنا هذا الملف العلمي الشامل للإجابة عليها وتفصيلها، وقد انتظم الملف في أربعة محاور هذه صورتها:
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم