اقتباس
إن الإجابة هي: "لا"؛ إنهم لا يُكلَّفون ذلك، ولا يؤمرون بذلك، بل شرط وجوب الحج على المسلم أن يتمكن من أدائه في أمان وسلامة وطمأنينة، لا يخاف على نفسه، ولا يخشى أن يضر نفسه أو غيره، ولا أن يحتاج أولاده من خلفه أن يمدوا أيديهم ليتكففوا الناس!..
هل الحج فريضة على المسلمين؟... والإجابة يعرفها كل مسلم يوحد ربه: إن الحج فريضة محكمة على كل مستطيع، بل هو ركن من أركان الإسلام الخمسة التي لا يصح إسلام عبد بدونها: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ)[آل عمران: 37]، وعن عبد الله بن عمر أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "بني الإسلام على خمس، شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان"(متفق عليه)، فهذا مما لا خلاف فيه ولا شك فيه ولا مراء فيه.
لكن السؤال حول القيد الذي ذكره الله -تعالى- في الآية: (مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا)، وهو نفس القيد الذي ذكره رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين قال: "خمس من جاء بهن مع إيمان دخل الجنة: من حافظ على الصلوات الخمس على وضوئهن وركوعهن وسجودهن ومواقيتهن، وصام رمضان، وحج البيت إن استطاع إليه سبيلًا..."(رواه أبو داود، وحسنه الألباني)، وعلى هذا القيد؛ "أن الحج واجب على المستطيع دون غير المستطيع": إجماع علماء الأمة أجمعين.
وسؤالنا حول هذا القيد يقول: هل يُكَلَف من لم يُسمح له بالحج بصورة رسمية أن يتحايل ليحج بالمخالفة معرِّضًا نفسه وغيره للخطر؟! وهل يُكَلَف مريضٌ تضره الحركة والمجهود والسفر أن يتكبد مشقة وعناء السفر إلى بيت الله -عز وجل-؟! وهل يُكَلَف من لا يملك نفقة الحج أن يأخذ نفقة عياله أو يستدين من غيره ليحج البيت؟!
والإجابة: أن ديننا أرحم من هذا، وأرفع من هذا، وأحكم من هذا؛ أوليس قد قال الله -عز وجل- في كتابه: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا)[البقرة: 286]، وقال -عز من قائل-: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا)[الطلاق: 7]، وأكد -سبحانه-: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)[إبراهيم: 78].
إن الإجابة هي: "لا"؛ إنهم لا يُكلَّفون ذلك، ولا يؤمرون بذلك، بل شرط وجوب الحج على المسلم أن يتمكن من أدائه في أمان وسلامة وطمأنينة، لا يخاف على نفسه، ولا يخشى أن يضر نفسه أو غيره، ولا أن يحتاج أولاده من خلفه أن يمدوا أيديهم ليتكففوا الناس!
فنقولها الآن في ثبات وثقة وبملء أفواهنا: من لا يستطيع أن يحج في أمان وسلامة: فلا حج عليه، من خاف على نفسه أو على غيره أن يضره: فلا حج عليه، من خشي من وباء قد استشرى أو من عدو متربص أو من زيادة مرض أو مِن تسبب حجه بدون تصريح في إيذاء غيره: فلا حج عليه...
***
وإن المتأمل في شرائع الدين كلها، وفي الحج خاصة يدرك أنه مبني على اليسر والتسهيل والسماحة والتخفيف، فعن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقف في حجة الوداع بمنى للناس يسألونه، فجاءه رجل فقال: لم أشعر فحلقت قبل أن أذبح؟ فقال: "اذبح ولا حرج"، فجاء آخر فقال: لم أشعر فنحرت قبل أن أرمي؟ قال: "ارم ولا حرج"، فما سئل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن شيء قدم ولا أخر إلا قال: "افعل ولا حرج"(متفق عليه)... وعلى أرض عرفة يوم عرفة يكفيك أن تقف وقتًا يسيرًا... وتجوز لك الإنابة والتوكيل في بعض أفعال الحج ليفعلها عنك غيرك...
ويروي ابن عباس -رضي الله عنهما- فقال: بينا النبي -صلى الله عليه وسلم- يخطب، إذا هو برجل قائم، فسأل عنه فقالوا: أبو إسرائيل، نذر أن يقوم ولا يقعد، ولا يستظل، ولا يتكلم، ويصوم. فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "مره فليتكلم وليستظل وليقعد، وليتم صومه"(رواه البخاري)... وروى مسلم في باب: "من نذر أن يمشي إلى الكعبة"، عن أبي هريرة، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أدرك شيخًا يمشي بين ابنيه، يتوكأ عليهما، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ما شأن هذا؟" قال ابناه: يا رسول الله، كان عليه نذر، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "اركب أيها الشيخ، فإن الله غني عنك، وعن نذرك"... وعن عقبة بن عامر، أنه قال: نذرت أختي أن تمشي إلى بيت الله حافية، فأمرتني أن أستفتي لها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فاستفتيته، فقال: "لتمش، ولتركب"(رواه مسلم)... وعن ابن عباس -رضي الله عنهما-: أنه دفع مع النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم عرفة، فسمع النبي -صلى الله عليه وسلم- وراءه زجرًا شديدًا وضربًا وصوتًا للإبل، فأشار بسوطه إليهم، وقال: "أيها الناس عليكم بالسكينة؛ فإن البر ليس بالإيضاع"(رواه البخاري)، والإيضاع هو الإسراع...
فالأمر كله يسر وسماحة، فلِما يشدد بعض الناس على أنفسهم؟! ولِما يكلِّف بعض الناس أنفسهم بما لم يكلفهم الله به؟!
***
والآن يا حجاج بيت الله المعظم دعونا نضع النقاط على الحروف، فنقول:
أولًا: إياكم والتزاحم الذي يضر المسلمين، إياكم والتدافع ولو كان على الحجر الأسود، فقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لعمر بن الخطاب: "يا عمر، إنك رجل قوي، لا تزاحم على الحجر فتؤذي الضعيف، إن وجدت خلوة فاستلمه، والا فاستقبله فهلل وكبر"(رواه أحمد، وحسنه شعيب الأرنؤوط).
وثانيًا: اعلموا أن لبس الكمامة في الحج إذا خيفت العدوى لا يبطل الحج، بل هو جائز إن كانت ضرورة -والضرورة تقدر بقدرها-، يقول زكريا الأنصاري الشافعي: "من لبس في الإحرام ما يحرم لبسه به أو ستر ما يحرم ستره فيه؛ لحاجة حر أو برد أو مداواة أو نحوها جاز وفدى"(أسنى المطالب في شرح روض الطالب)، بل لقد عُطلت شعيرة الحج في زمن جائحة كورونا؛ من أجل السلامة والوقاية.
وثالثًا: من كانت به آفة أو خاف مرضًا فله أن يترخص ويفدي، ليعود إلى وطنه سالمًا معافى، ولا يشق على نفسه أو يحملها ما لا تطيق؛ والأصل في ذلك حديث كعب بن عجرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- مر به وهو بالحديبية، قبل أن يدخل مكة، وهو محرم، وهو يوقد تحت قدر، والقمل يتهافت على وجهه، فقال: "أيؤذيك هوامك هذه؟" قال: نعم، قال: "فاحلق رأسك، وأطعم فرقًا بين ستة مساكين"(متفق عليه).
وهناك من أبواب الصيانة عن الوقوع في العنت والمشقة، ومن أسباب السلامة والوقاية: رابعًا وخامسًا وسادسًا وعاشرًا... وإنما تركناها لخطبائنا يزيدون ويوضحون ويؤصلون ويفصِّلون.. فإليك بعض خطبهم:
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم