اقتباس
وإننا نتوقع أن الذكاء الاصطناعي لن يستقر على وضعه الحالي، بل سوف يتوسع ويتطور ويدخل مجالات أكثر وأكثر وسيصبح أكثر إتقانًا ودقة وأروع نتائجًا وسيحقق إنجازات مبهرة وستعتمد عليه كثير من... هذا ما نتوقعه، ولا يعلم الغيب إلا الله -تعالى-...
ما زالت الأشياء تتطور وتتنامى منذ بدء الخليقة إلى الآن ثم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وفي بدايات البشر لم تكن تُعرف مصطلحات اليوم من تقنيات و"تكنولوجيا" ومجالات الثورة الصناعية وغزو الفضاء والطاقة الكهربائية والنووية... إلى آخر ذلك من مستجدات، ولكن مع ذلك عرف الإنسان التطور والاختراع والابتكار والاكتشاف، أبدًا لم يكن بوتيرة اليوم ولا بشكل وتصاميم وهندسة هذا الزمان، لكنه كان موجودًا.
وكلما مر عصر من العصور ظهر ما يخلب الألباب ويبهر العقول، مما لم يُتصور أن يكون موجودًا أو أن يصبح واقعًا؛ فمن كان يتخيل أن تطير أطنان من المعدن في الهواء بواسطة "محرك" ويسمونه طائرة؟! ومن كان يتصور أن تسبح سفن في الفضاء فتصل القمر ثم المريخ وغيرهما؟! ومن كان يحلم أن يرى وهو جالس في بيته جميع ما يحدث في أنحاء الأرض بالصوت والصورة وفي لحظة حدوثه مباشرة؟!...
يسمونها: "طفرات" في جميع المجالات، ولعل آخر طفرة تكنولوجية ظهرت في زماننا هي ما يسمونه: "الذكاء الاصطناعي"؛ وقد عرَّفته الهيئة السعودية للبيانات والذكاء الاصطناعي بأنه: "أنظمة تَستخدم تقنياتٍ قادرة على جمعِ البيانات واستخدامِها للتنبؤ أو التوصية أو اتخاذ القرار بمستويات متفاوتة مِن التحكم الذاتي، واختيار أفضل إجراء لتحقيق أهدافٍ محددة"(نقلًا عن: موقع الإسلام سؤال وجواب).
معلومات هائلة في جميع المواضع وبكل الأشكال وقدرات خارقة، تسأله فيجيب، تقحمه في أي صناعة أو تجارة أو مجال فيحسن ويبدع ويجدد ويبهر، تستخدمه فيما يستغرق من البشر شهورًا فينجزه في دقيقة أو في جزء من دقيقة، يصنع لك أحداثًا من الوهم والخيال فيتقنها حتى لا تشك طرفة عين أنها حقيقية، بل قد تجد نفسك صوتًا وصورة تلهو مع حوت الأزرق في أعماق المحيط، أو تتصارع مع أسد هصور في غابات السافانا وتغلبه، أو تقف بقدميك فوق قرص الشمس المتوهج في استرخاء!...
"جنون"، لو حدَّثت أحدًا بمثل هذا في أي عصر مضى، لأجابك بهذه الكلمة: "جنون وخيال جامح وأحلام مفرطة"، لكن هذا الخيال الجامح قد أصبح اليوم واقعًا مشاهدًا مقدورًا صنعه في فيديو محكم متقن رائع الإخراج والتصميم.
ومن يحيا على هذه الأرض سيظل يعاين كل يوم مستحدثات ومستجدات وعجائب ومستغربات مما لا تستوعبه عقولنا اليوم، يشير إلى شيء من ذلك حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "والذي نفسي بيده، لا تقوم الساعة حتى تكلم السباع الإنس، وحتى تكلم الرجل عذبة سوطه وشراك نعله وتخبره فخذه بما أحدث أهله من بعده"(رواه الترمذي، وصححه الألباني).
***
ويخرج عليك جماعة ممن بهرهم وراعهم وأدهشهم ما يحدث، فيحرِّمون الذكاء الاصطناعي ويجرِّمونه، ويعدونه من بدع الشيطان ومن نفثات السحرة! لكن العلماء الأثبات -كعادتهم- يردونهم إلى القاعدة العامة الأصيلة التي تقول: "الأصل في الأشياء الإباحة": يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "لست أعلم خلاف أحد من العلماء السالفين في أن ما لم يجئ دليل بتحريمه فهو مطلق غير محجور"(الفتاوى الكبرى لابن تيمية).
فالذكاء الاصطناعي مباح من حيث الأصل، لكنه -ككل شيء وكأي شيء من المباحات- سلاح ذو حدين؛ كفاكهة العنب يمكن أن تتناوله هنيئًا مريئًا، ويستطيع غيرك أن يصنع منه خمرًا مسكرًا! وكالسكين يمكنك أن تُعِد به الطعام ويمكن لغيرك أن يقتل به إنسان! فكذلك من مجالات الذكاء الاصطناعي ما هو خير وحلال ونافع ومفيد، ومنها ما هو شر وضار وبالتالي محرَّم وممنوع منه.
فعلى حسب استخدامك له، يكون حكمه بالنسبة لك؛ فلو استخدمته في خير فهو لك حلال مباح وقد يزيدك إلى الله -تعالى- قربًا، أما من يستخدمه في التزوير والتلفيق والخداع ونشر الشبهات والطعن في الثوابت والافتراء على الناس... فذاك الذي هو له حرام.
***
وكمثل كثير من الأمور المستحدثة، لابد للذكاء الاصطناعي من ضوابط تضبطه لنضمن ألا يحيد عن النفع والإفادة ومن ثم لا يخرج من دائرة الحلال إلى دائرة الحرام، فمن تلك الضوابط: استخدامها فيما يرضي الله -تعالى- وليس فيما يغضبه، وهذا هو الذي نؤكد عليه من أول كلامنا، ولنذكر قول الله -عز وجل-: (وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا)[الإسراء: 36].
ومنها: توضيح ما هو واقعي حقيقي مما هو ملفق مُدَّعى؛ بمعنى ألا يصنع بالذكاء الاصطناعي ما يضاهي الشيء الحقيقي ثم يدعي أنه حقيقي، فإن الكذب لا يحل، وإن هذا غش وتدليس وخداع، وقد قال نبينا --: "ومن غشنا فليس منا"(رواه مسلم).
ومنها: ألا يُقحم الذكاء الاصطناعي فيما ليس له؛ كالإفتاء في الملمات والمسائل الخاصة... فـ"لا يجوز استفتاؤه أو الاعتماد على أجوبته في الأمور الشرعية؛ لأنه يفتقر إلى أهلية الفتوى من فقهٍ في الدين، وفهمٍ للواقع، وغيرها من الشروط، وأجوبته تُولّد آليًّا من بيانات قد تكون مجهولة أو مغلوطة"(موقع الإسلام سؤال وجواب).
وإننا نتوقع أن الذكاء الاصطناعي لن يستقر على وضعه الحالي، بل سوف يتوسع ويتطور ويدخل مجالات أكثر وأكثر وسيصبح أكثر إتقانًا ودقة وأروع نتائجًا وسيحقق إنجازات مبهرة وستعتمد عليه كثير من الصناعات والاقتصادات والتجارات... هذا ما نتوقعه، ولا يعلم الغيب إلا الله -تعالى-، وإننا لنسأله وهو العلي القدير أن يكون هذا الذكاء الاصطناعي باب خير وتقدم ورشد للأمة الإسلامية وسبب رشاد وهداية لأبنائها.
ونفسح المجال الآن -كعادتنا- لخطباء المنابر كي يدلو بدلوهم ويقدِّموا الرؤية الشرعية المحكمة لتلك الطفرة المستجدة، وهاك شيء من خطبهم.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم